نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
البودكاست في 2026: من الهامش الصوتي إلى قلب الثقافة العالمية - تواصل نيوز, اليوم الأربعاء 31 ديسمبر 2025 09:23 صباحاً
في صباحٍ صاخب في نيروبي، يتبادل مجموعة من الطلاب سمّاعات الرأس للاستماع معاً إلى أحدث حلقة من برنامج حواري محلي. وفي بيروت، يستمع راكب سيارة أجرة إلى نصيحة اقتصادية في بودكاست متخصّص، بينما تنصت سائحة في دبي إلى سلسلة حكايات عن تاريخ الإمارات عبر هاتفها الذكي. مشاهد متباعدة جغرافيّاً، لكنها تتقاطع عند حقيقة واحدة: البودكاست أصبح قوة ثقافية عالمية.
اليوم، يُتوقّع أن يتجاوز عدد المستمعين عالمياً 600 مليون مستمع في 2026، ليخرج البودكاست، في أقلّ من عقد، من هامش التجربة النخبوية إلى قلب المشهد العالمي، مستفيداً من انتشار الهواتف الذكيّة، وتراجع كلفة الاتصال، وشهيّة متزايدة لمحتوى يُستهلك عند الطلب وبالإيقاع الشخصي لكل مستمع.
الهجرة الكبرى
في تقرير صدر عام 2023، قالت مديرة الاستراتيجية في "Podeo"، أكبر منصة بودكاست في العالم العربي، لمى مصري إنّ أكثر من 13 مليون شخص في الشرق الأوسط يستمعون إلى البودكاست لما يصل إلى سبع ساعات أسبوعياً. وأكّدت أنّ المملكة العربية السعودية تُعدّ أكبر سوق للبودكاست في المنطقة، مع 5.1 ملايين مستمع، تليها دولة الإمارات العربية المتحدة بنحو 2.3 ملايين مستمع.
وأشارت مصري إلى أنّ عدد برامج البودكاست في المنطقة قفز إلى 19 ألف برنامج خلال شهر كانون الثاني/يناير 2023 وحده، بعدما كان لا يتجاوز 2000 برنامج طوال عام 2022 بأكمله.
أميركياً، ولعقود طويلة، كان التلفزيون موقد البيت الأميركي، غير أنّ جمهور "الذروة" هاجر. بينما يواصل التلفزيون التقليدي تراجعه بين الفئات الشابة، استحوذ البودكاست على اهتمامهم. وفق بيانات "إديسون ريسيرش" لعام 2025، نحو 66 في المئة من الأميركيين بين 12 و34 عاماً باتوا يستمعون إلى البودكاست شهرياً، وهي نسبة تتجاوز فعلياً استخدام التلفزيون التقليدي لدى هذه الفئة.
ليس الأمر توجهاً نخبوياً، بل نزوح جماعي. فاليوم، يستمع 55 في المئة من الأميركيين (12 عاماً فما فوق) إلى البودكاست شهرياً، أي ما يُقدّر بنحو 158 مليون شخص. أصبح البودكاست "الموسيقى الخلفية" للحياة الحديثة، يملأ "الفراغات" بسرديات عند الطلب.
امرأة تُجري بودكاست.
غير أنّ التحوّل الأعمق لا يكمن في الأرقام وحدها، بل في الدور الذي يضطلع به البودكاست في تشكيل الوعي، مع تأثيره في طرائق التعلّم، وأشكال التفاعل، ومستويات الثقة بالمعلومة. أظهر استطلاع عالمي حديث أجرته شركة "أكاست" أنّ المستمعين ينظرون إلى البودكاست بوصفه وسيطاً عالي الصدقيّة، متقدّماً على وسائل التواصل الاجتماعي و"يوتيوب"، وموازياً في ثقله للصحافة التقليدية.
"عمق وتنوّع"
قدّمت المؤسسة الترفيهية، أخيراً، اعترافاً رفيع المستوى بعالم البودكاست، إذ أضافت جوائز "غولدن غلوب" فئة "أفضل بودكاست" إلى دورتها الـ83 (كانون الثاني/يناير 2026). القائمة الافتتاحية التي تضمّ 25 بودكاست مؤهّلاً تعكس، بحسب رئيسة الجائزة هيلين هوين، "العمق والتنوّع والإبداع الاستثنائي المزدهر اليوم في عالم البودكاست". وبالفعل، يجعل هذا القرار من "غولدن غلوب" أول جوائز كبرى للسينما والتلفزيون تكرّم البودكاست، في دلالة واضحة على تنامي الأهمية الثقافية لهذا الوسيط. فما كان يوماً ثقافة صوتية هامشية، أصبح بحلول 2026 جزءاً راسخاً من التيار السائد في الترفيه والإعلام.
لا يأتي هذا الاعتراف مفاجئاً في ظل الصعود الصاروخي للبودكاست خلال عقدٍ ونصف عقد. في الولايات المتحدة، غدا الاستماع إلى البودكاست عنصراً أساسياً من ثقافة الشباب، إلى حد أنّه بات يتفوّق على التلفزيون التقليدي أحياناً من حيث الانتشار بين الفئات الشابة. وأصبح البودكاست لدى الجيل "زد" والشباب من جيل الألفية شائعاً بقدر شيوع التلفزيون تقريباً.
تكشف قائمة "غولدن غلوب" أنّ البودكاست بات خط التماس الجديد في حروب الثقافة. فإدراج أسماء مثيرة للجدل إلى جانب برامج ليبرالية يؤكّد أنّ هذا الوسيط أصبح الساحة الأساسية للصراع الأيديولوجي. ورغم التوقّعات بأن تميل الترشيحات النهائية إلى محتوى أكثر أماناً، فإن مجرّد الأهلية يعكس أنّ البودكاست يتيح المجال لأكثر الخطابات السياسية تأثيراً، في ساحات رقمية لا تخضع لقيود الرقابة التقليدية.
ثقافة الشباب وتنوّع المحتوى
احتضن جيل الألفية والجيل "زد" البودكاست كمساحة للانتماء وبناء الهوية، وتشير الاستطلاعات إلى أنّ 83 في المئة من مستمعي البودكاست يشعرون بأن مقدّمي برامجهم المفضّلين يشبهون الأصدقاء. فطبيعة الوسيط الحميمة والحوارية تخلق علاقة شبه اجتماعية، يطوّر فيها المستمعون ولاءً للمضيفين على نحو نادراً ما تحققه وسائل الإعلام التقليدية، ويتحوّل معها مقدّمو البودكاست إلى نجوم جيل كامل.
أما المحتوى، فشديد التنوّع ويخاطب تقريباً كل اهتمام وكل ثقافة فرعية. ويحلّ عام 2026 على ملايين البودكاستات، إذ جرت فهرسة أكثر من 4,5 ملايين عنوان بودكاست حول العالم (مع أنّ نحو 10 في المئة فقط منها يواصل إنتاج حلقات جديدة، إذ يتوقّف كثير من البرامج مع الوقت). بمعدّات بسيطة وشغف حقيقي، يستطيع المبدعون المستقلّون الوصول إلى مستمعين حول العالم. وقد بنى بعض صُنّاع البودكاست من غرف نومهم جماهير وفيّة بعشرات أو مئات الآلاف، وباتت الجميع قادرين على البث عالمياً. هذه الديموقراطية الإعلامية تشكّل جوهر جاذبية ثقافة البودكاست.
ومع ذلك، يحتفظ البودكاست بروح استقلالية قوية، والغالبية العظمى من البرامج لا تزال تُنتج على يد صُنّاع مستقلّين أو فرق صغيرة، لا استوديوهات ضخمة. وعلى عكس الإنتاجات التلفزيونية المصقولة، غالباً ما يبدو البودكاست أكثر عفوية وشخصية. ولافتٌ أنّ البودكاست أسهم في تضخيم أصوات فئات وجماعات مهمّشة.
قوة السرد
يقوم ازدهار البودكاست، في جوهره، على فعل إنساني قديم: الحكاية. فمنذ بدايات الثقافات، كان السرد وسيلة لنقل المعرفة وبناء الروابط الاجتماعية، وقد أعاد البودكاست إحياء هذا التقليد الشفهي على نطاق عالمي، بأسلوب معاصر أكثر قرباً وصدقاً. في عام 2026، تحوّل البودكاست إلى مساحة بلا حدود، يتحدّث فيها العالم إلى نفسه، ويتبادل القصص والأفكار بلغات ولهجات وتجارب متنوّعة، غالباً بقدر من الأصالة والشمول يفوق ما تقدّمه وسائل الإعلام التقليدية.
من المرجّح أن يشهد عام 2026 انفجار البودكاست المصوَّر. فالحدود بين الصوت والصورة تتلاشى، و"يوتيوب" تحوّل بهدوء إلى المنصّة الأولى لاستهلاك البودكاست لدى الجيل الأصغر، إذ يفضّل 59 في المئة من مستمعي الجيل "زد" متابعة البودكاست عبر الفيديو. هذا التوجّه غيّر جمالية الوسيط، ومن المتوقّع أن يبلغ الإنفاق الإعلاني في قطاع البودكاست 4.46 مليارات دولار في 2025/2026.
يتجلّى أثر هذه الثقافة الصوتية في تفاصيل يومية وتحولات ملموسة: من شاب يشعر بأنه أقلّ وحدة بعد الاستماع إلى نقاش صريح حول الصحة النفسية، إلى تغيير سياسات عقب تحقيقات صوتية كشفت الفساد، وصولاً إلى إحياء لغات مهدّدة عبر بودكاستات سردية محلية. أثبت البودكاست أنّ لكلّ صوت فرصة لأن يُسمَع، وأنّ ملايين القصص الفردية قادرة على نسج سردية إنسانية مشتركة أكثر ثراءً وتعدّداً. في عصر البودكاست، الميكروفون مفتوح للجميع، والإنصات بات فعلاً عالمياً.













0 تعليق