نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
مصر تبكي "فيلسوف السينما" داود عبد السيد: صوّر الأزمات الصامتة ورفض الوصاية ومات حراً - تواصل نيوز, اليوم الأربعاء 31 ديسمبر 2025 11:23 صباحاً
في سيرة "فيلسوف السينما المصرية" داود عبد السيد الذي رحل السبت الماضي عن 79 عاماً، ما يشبه التكوين البطيء لفنّان جاء من الهامش. علاقته بالسينما بدأت كلحظة اكتشاف مبكرة، حين وجد نفسه، وهو بعد في سن الدراسة الثانوية، داخل أحد الاستوديوات القريبة من منزله، مراقباً الكاميرات وهي تعمل، مندهشاً من عالم لم يكن يعرف أنه سيصبح قدره. تلك المصادفة سرعان ما تحوّلت إلى قرار واع: دراسة السينما.
بعد تخرجه في أواخر الستينات، خاض تجربة العمل مساعداً لمخرجين مثل يوسف شاهين وكمال الشيخ. غير أن هذه المرحلة لم تطل. لم يرَ نفسه في موقع المنفّذ أو التابع، ولم تحتمله طبيعة المهنة التي تتطلّب انضباطاً تقنياً لا ينسجم مع مزاجه التأمّلي. احتاج أن "يفكّر" الفيلم قبل أن يصنعه، بدلاً من أن يكون جزءاً من ماكينة تنفيذ.
دفعه هذا إلى السينما الوثائقية، حيث وجد مساحة أوسع للتجريب؛ مساحة لا تحكمها شروط السوق وحسابات الربح. على امتداد السبعينات، أنجز أعمالاً تناولت الريف، العمل، الناس العاديين، والذاكرة الثقافية، مراكماً خلالها معرفة حميمة بالواقع المصري، بطبقاته المنسية وتفاصيله اليومية وأزماته الصامتة. مع ذلك، بقي اسمه بعيداً من الضوء، وكأن تلك السنوات كانت تمريناً قاسياً على الصبر.
محمود عبد العزيز في ”الكيت كات“.
التحوّل الحقيقي جاء مع انتقاله إلى السينما الروائية في منتصف الثمانينات، في عز ما عُرف بتيار "الواقعية الجديدة" التي كانت تتشكّل آنذاك في أفلام عاطف الطيب ومحمّد خان وخيري بشارة. فيلمه الأول، الصعاليك" (1985)، تمصير لفيلم "بورسالينو" الشهير بطولة ألان دولون وجان بول بلموندو، يلعب دورهما نور الشريف ومحمود عبد العزيز، مجسّدين ثنائية الصعلكة في الإسكندرية. لم يكن فيلماً خالياً من العيوب، لكنه يحمل بصمة، لم يعتنِ فيها المخرج الشاب بالحكاية التقليدية بقدر ما بدا معنياً بكشف البنية الأخلاقية للمجتمع، حيث تختلط الصداقة بالمصلحة، والطموح بالانتهازية، والنجاة الفردية بالفساد العام. كان واضحاً منذ البداية ان شخصياته لا تغدو محل ادانة على الفور، لكنها تُترَك لتكشف نفسها بنفسها، في عالم لا يوفّر خلاصاً لأحد.
ما ميّز هذا العمل، وغيره لاحقاً، أنه لم يكن مجرد تسجيل لمرحلة اجتماعية، بل محاولة لفهم آلياتها الداخلية: كيف يتحوّل القرب الإنساني إلى صراع، وكيف تبتلع السلطة الجميع، حتى من يظنّون أنهم جزء منها. في هذا المعنى، جاء الفيلم امتداداً نقدياً لمشروع سينمائي أوسع كان يسائل سنوات الانفتاح التي بدأت في عهد السادات، ولكن من زاوية أكثر تجريداً وأقل خطابيةً.
بعد هذا الفيلم، توقّف عبد السيد عن العمل لبعض سنوات. رفض أن يساوم على رؤيته أو أن يؤفلم نصوصاً لا يؤمن بها. عاش تلك المرحلة في ضيق مادي حقيقي، متنقّلاً بين مؤسسات ثقافية ووظائف محدودة الدخل، بينما كانت مشاريعه السينمائية تُرفَض الواحد تلو الآخر بذريعة الكآبة أو الأنتي جماهيرية. أكثر هذه المشاريع تعثّراً، كان سيناريو "الكيت كات"، الذي ظلّ حبيس الأدراج إلى ان أنجزه في مطلع التسعينات. الفيلم مأخوذ من رواية "مالك الحزين" لإبرهيم أصلان، مع معالجة سينمائية حرّة ومغايرة للبنية الروائية.
في منطقة شمال الجيزة الشعبية، نتعرف إلى الشيخ حسني الكفيف (محمود عبد العزيز) الذي يواجه تحوّلات الحي بعناد ومرح، كاشفةً عبر مصائر شخصياته عن الفساد والانكسار، والرغبة في النجاة داخل بيئة شعبية تتفكّك وتعيد تشكيل نفسها. في هذا العمل، تجلّت ذروة أسلوبه: شخصيات تعيش على الحافة، كوميديا سوداء تخفي مرارة عميقة تخفّف القسوة ولا تلغيها، ومشاهد مكثّفة دالة. مقاومة يومية بلا خلاص نهائي، بعيداً من النظرات الوعظية. العمى هنا يفرض نفسه كاستعارة لحالة جماعية.
طاقم ”مواطن ومخبر وحرامي“.
لكن قبل "الكيت كات"، أنجز عبد السيد "البحث عن السيد مرزوق"، بطولة نور الشريف، وهو الفيلم الذي أخرجه من أزمة عبور النفق. موظّف تقوده مصادفة في يوم إجازته إلى عالم ليلي غامض عبر شخصيات غرائبية في مقدمها السيد مرزوق الملياردير المتناقض، لينتهي به مُتَّهماً بجريمة قتل. فيلم ذو طابع فلسفي واضح ("الحياد وهم والمُشاهدة لا تعفي من المسؤولية")، يتأمّل فكرة البحث عن المعنى والهوية والعدم.
سنكتشف عبر صدام الموظّف البسيط بالمليونير الحر عن ثنائية الخوف والحرية، اذ يدفع الفيلم بطله إلى مواجهة حياة كان يتجنّبها، مستنتجاً أن الاحتماء بالحياد والمراقبة لا ينقذ الإنسان. الفيلم رسخ مكانة عبد السيد كمخرج صاحب مشروع فكري، لا مجرد صانع صور.
واصل عبد السيد اشتغاله على عوالم المهمّشين، مقدّماً أفلاماً لا تسعى إلى استدرار التعاطف بقدر ما تكشف القسوة اليومية في الأطراف المنسية من المدينة. لا تجميل للناس وواقعهم، مجرد بشر بنزواتهم وضعفهم وتناقضاتهم. في "أرض الأحلام"، بطولة فاتن حمامة، نتعرف إلى سيدة تفقد جواز سفرها قبيل قرارها المتأخّر الهجرة إلى أميركا، وخلال رحلة البحث عنه عبر المدينة ولقاءاتها المتتابعة، خاصةً مع ساحر غريب (يحيى الفخراني)، تعيد التفكير في قرار السفر بعد ان تتغيّر نظرتها إلى الحياة التي لطالما كانت محصورة بالقيود والاعتبارات. مرةً أخرى، تجد شخصية الفيلم نفسها في مواجهة شخصية أخرى تتجاوزها قدرةً وامكانات.
بعد "سارق الفرح" الذي يُجسِّد معاناة العاشقَين أحلام وعوض (لوسي وماجد المصري) اللذين يدفعهما الفقر وضغط المجتمع إلى التنازل الأخلاقي، جاء عبد السيد بـ"أرض الخوف": ضابط (أحمد زكي) يتحوّل خلال مهمّة سرية إلى تاجر مخدّرات غارق في عالم الجريمة لسنوات طويلة، حتى يذوب الحدّ الفاصل بينه وبين المجرم داخله. سيجد نفسه وحيداً أمام شكّ قاتل في هويته وحقيقة مهمّته. الفيلم يطرح سؤالاً فلسفياً حول تآكل الهوية حين تطول الغاية ويغيب اليقين.
داود عبد السيد (2025 - 1946).
في مطلع الألفية، جاء عبد السيد متأبّطاً واحداً من أهم أفلامه: "مواطن ومخبر وحرامي". لوحة ساخرة تجمع ثلاث شخصيات متناقضة (خالد أبو النجا، صلاح عبدالله، شعبان عبد الرحيم)، كاشفاً بذكاء نقدي تفاصيل الانحطاط الثقافي في المجتمع المصري، جامعاً بين سينما المؤلّف والسينما الجماهيرية، في ما يُمكن اعتباره أفضل توظيف للمغنّي الشعبي شعبولا في السينما. يرصد الفيلم تشابك عالم المثقّف والحرامي عبر شخصية سليم الذي تُسرق روايته ثم يستعيدها بثمن أخلاقي وإنساني فادح، ليستنتج أن النجاح في واقع مضطرب قد يولد من الفوضى والتواطؤ. أتذكّر أنني سألتُ عبد السيد في أول لقاء بيروتي جمعني به، عن بزوغ الفكرة في رأسه، فقال: "ما أعجبني هو العلاقة بين الشخصيات الثلاث. فالمواطن، على غرار أمواج البحر التي تتكسّر على الشاطئ قبل أن تنسحب، يتعرض لتهديدات المخبر. هذا المواطن هو أشبه بالصخرة التي تنحتها أمواج البحر".
اختتم عبد السيد مسيرته بفيلمين: "رسائل البحر" (2010) و"قدرات غير عادية" (2015)، من دون أن يبلغ فيهما حدّته الفكرية السابقة، قبل ان يدفعه واقع الإنتاج وسطوة الرقابة وظروف السياسة في مصر إلى الاعتكاف، رافضاً المساومة. ظلّت سينماه في جوهرها، من تلك التي ترفض الوصاية. لا تقدّم إجابات سهلة، ولا تدّعي امتلاك الحقيقة، لا بل تصر على النظر المباشر إلى الإنسان كما هو، وهي حرية لم يعد لها متّسع في زمن عبد الفتاح السيسي.
رغم المكانة الرفيعة (كدتُ أقول "القدسية") التي يحظى بها عند كثر من السينمائيين من مختلف الأجيال، لم يُسوَّق عبد السيد دولياً كما يجب. الأمر الذي يوضّحه المخرج المصري عبد الوهاب شوقي (يعتبره ملهمه)، بالقول بأنه كان متشدّداً في رفض السينما المصنّعة للغرب، حدّ التطرف، ممّا جعله يرفض التمويل من صناديق الدعم الأوروبية، معتبراً أن سينماه يجب أن تُموَّل من أموال الجمهور المصري. بحسب شوقي "لم يذهب إلى أي مهرجان عالمي كبير، ولم يعرف للسجّادة الحمراء طريقاً، لكن بالطبع أفلامه أكثر خلوداً من تلك التي نالت الجوائز في المهرجانات الكبرى ولم تفز بإنسان واحد من بني جلدتها يحملها في وجدانه، كما يحمل الناطقين بالعربية أفلامه التسعة إلى الأبد”.












0 تعليق