تطورات جنوب اليمن: قراءة في خلفية الأحداث - تواصل نيوز

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
تطورات جنوب اليمن: قراءة في خلفية الأحداث - تواصل نيوز, اليوم الأربعاء 31 ديسمبر 2025 01:33 مساءً

بقلم: د. وليد محمود عبد الناصر*


أعادت أحداث شهر ديسمبر 2025 المتلاحقة والمتسارعة في جنوب اليمن إلى الواجهة من جديد الأوضاع المتوترة والمتأزمة منذ سنوات، والتي ما إن تهدأ لبعض الوقت حتى تعود للانفجار بعد فترة زمنية ليست بالطويلة، في هذا الإقليم البالغ الأهمية والحيوية في حسابات الاستراتيجيات الجيوسياسية العالمية والشديد التأثير والدلالة بالنسبة للأوضاع الإقليمية في حسابات منطقة الخليج والشرق الأوسط وخطوط التماس الأفرو آسيوية، وأحيت تلك التطورات مجدداً صدور الإشارات والتحليلات والتقديرات المتعلقة بطبيعة وتوصيف مدى رغبة وإرادة وقدرة، على أقل تقدير، قطاع من أهل الجنوب في الانفصال عن دولة اليمن الواحدة، بحسب رؤية البعض، أو في استعادة استقلال الجنوب، من وجهة نظر البعض الآخر.

وتمثلت هذه التطورات الأخيرة في إعلان المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يمثل الإطار السياسي والتنظيمي الذي يمكن القول بأنه منذ تأسيسه في عام 2017 جسد الكثير من مطالب حركة الحراك الجنوبي النشيطة، التي كانت قد تأسست بدورها في عام 2007 في أقاليم جنوب اليمن، إعلانه السيطرة العسكرية والفعلية على كافة الأراضي التي كانت تنضوي في السابق، وحتى إعلان الوحدة بين شطري اليمن الشمالي والجنوبي في مايو من عام 1990، تحت لواء "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية"، التي كانت تضم الأقاليم الجنوبية وكانت عاصمتها مدينة عدن، وهي جمهورية تأسست منذ استقلال اليمن الجنوبية من الاحتلال البريطاني في نوفمبر من عام 1967. 

ومن الناحية الفعلية كان التفسير العملي والمنطقي لإعلان المجلس الانتقالي الجنوبي السيطرة على الأقاليم التي كانت تقع في إطار اليمن الجنوبية حتى مايو من عام 1990، الانفصال على أرض الواقع بين هذا المجلس وحكومة اليمن المعترف بها دولياً من قبل الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية الهامة والأساسية، والتي كان المجلس في حالة تحالف أو ائتلاف معها في مواجهة طرف ثالث في المعادلة السياسية والعسكرية اليمنية منذ سنوات، ألا وهو حركة "أنصار الله"، المعروفة سياسياً وإعلامياً باسم حركة الحوثيين التي تسيطر من الناحية الفعلية على العاصمة اليمنية صنعاء منذ فترة ليست بالقليلة، كما تسيطر على أراض أخرى في أنحاء اليمن.

ونظراً للطابع الزمني الممتد منذ عقود لتلك الأحداث والتطورات، فإنه لا يمكن التوقف في التحليل فقط عند موضوعات مثل من هو الطرف الإقليمي أو الدولي الذي يساند هذا الطرف المحلي أو ذاك ودوافع تلك المساندة وهذا الدعم، أو اقتصار التساؤلات على أسئلة من نوعية ما هي الأسباب أو الظروف التي تدفع قطاعات من أهل الجنوب في اليمن اليوم إلى المطالبة بالاستقلال واستعادة صيغة دولة اليمن الجنوبية، بل يتعين العودة للجذور التاريخية ومسارات تطوراتها وسياقها الاجتماعي والفكري والسياسي والاقتصادي وما شهدته من أنماط تفاعل حتى يمكن أن نزعم أنه لدينا رؤية مكتملة تتصف بالشمول والعمق في آن واحد وتنتهج منهجاً موضوعياً في التحليل.

فتاريخ التطور السياسي والاجتماعي لم يكن متماثلاً بين شمال اليمن وجنوبه، فلقد خضع الجنوب للاحتلال البريطاني منذ وقت مبكر نسبياً في القرن التاسع عشر، وتحديداً منذ عام 1838، لأسباب استراتيجية تتعلق أساساً بأهمية ميناء عدن التجارية والعسكرية الدولية، ومن ثم حدث تفاعل مكثف بين قطاعات من أهل الجنوب والأجانب، وليس فقط البريطانيين، وهوما أدى إلى انتشار أفكار سياسية كانت تهب رياحها من أوروبا مثل الفكرة الوطنية والمفاهيم الاشتراكية، كما ازدهرت أحوال التجارة ونما الاقتصاد، مع الإقرار بأن هذا النمو كان في سياق التبعية لاقتصاد دولة الاحتلال، وتطورت المؤسسات التعليمية وانتشر تعلم اللغة الإنكليزية ولغات أجنبية أخرى بين أبنائه، دونما إنكار بالطبع أن التركيبة والمرجعية القبلية استمرت غالبة على قطاعات من أبناء الجنوب اليمني، خاصة خارج عدن.

 

 

 

صورة نُشرت في 14 مايو/أيار 1964 لجنود مظليين بريطانيين يقاتلون مواقع القبائل المتمردة في تلال ردفان، التي كانت جزءًا من محمية الضالة البريطانية في عدن.. (أف ب)

صورة نُشرت في 14 مايو/أيار 1964 لجنود مظليين بريطانيين يقاتلون مواقع القبائل المتمردة في تلال ردفان، التي كانت جزءًا من محمية الضالة البريطانية في عدن.. (أف ب)

 

 

وعلى الجانب الآخر، فإن شمال اليمن رزح تحت حكم أسرة حميد الدين التي أنشأت حكماً إمامياً استمر ما بين عامي 1904 و1962، وحمل شمال اليمن في ظله اسم المملكة المتوكلية اليمنية، وعانى الشعب في شمال اليمن من العزلة التامة عن العالم من حوله ومن حالة عامة من التخلف والجمود السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتضييق على جهود التعليم وانعدام منافذ الثقافة والبعد التام عن أي وسائل للإعلام وانعدام حقوق المرأة تقريباً، وكانت القبلية وانتماءاتها هي المسيطرة على المجتمع بالكامل، وهو وضع استمر حتى قيام ثورة الجيش بقيادة المشير عبد الله السلال في أيلول/سبتمبر من عام 1962 والذي أطاح بالنظام الملكي وأعلن الجمهورية، وبدأت بعدها حرب أهلية استمرت خمس سنوات بين الجمهوريين والملكيين، وحدث انقلاب في 1967 عزز مجدداً من عودة نفوذ القبلية وتأثيرها إلى البلاد، في توقيت مماثل تقريباً لاستقلال الجنوب اليمني عن بريطانيا والدخول في مرحلة صراع في الجنوب بين خيار قومي عربي وخيار ماركسي انتهت بانتصار الأخير وسعيه لتطوير صيغة نظام سياسي حاول بناء نموذج ماركسي في بلاده، وإن أظهرت الحرب الأهلية في جنوب اليمن عام 1986 ان الانتماءات القبلية استمرت قوية ولها الكلمة العليا بدرجة كبيرة في المعادلة السياسية، حتى في صفوف من رفعوا لواء الاشتراكية العلمية والماركسية اللينينية.

 

 

مقاتلون يدعمون القيادي البارز في الحزب الاشتراكي اليمني عبد الفتاح إسماعيل أمام موقع مهجور تركه أنصار الرئيس علي ناصر محمد في 4 فبراير 1986 في لودر قرب الحدود مع شمال اليمن.(أف ب)

مقاتلون يدعمون القيادي البارز في الحزب الاشتراكي اليمني عبد الفتاح إسماعيل أمام موقع مهجور تركه أنصار الرئيس علي ناصر محمد في 4 فبراير 1986 في لودر قرب الحدود مع شمال اليمن.(أف ب)

 

وما بين تاريخ استقلال الجنوب اليمني في عام 1967 وتحقق الوحدة بين شطري اليمن في مايو 1990 تعددت وكثرت محاولات توحيد الشمال والجنوب وطرحت اقتراحات وصيغ متعددة ومتنوعة لإنجاز تلك الوحدة، إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل. ومن الصحيح أن بعض حالات الفشل كانت ترجع للمزايدات بين القيادات في الشمال والجنوب على مسألة الوحدة وتوظيف تلك القيادات لموضوع الوحدة لإظهار توجهاتها الوحدوية ولكسب المزيد من الشعبية والشرعية في الشطر الذي تحكمه أو في الشطر الآخر، إلا أن القراءة المتأنية لفشل تلك المحاولات تقودنا أيضاً إلى تباين في درجات الوعي الفكري والاجتماعي والسياسي وطبيعة النشاط الاقتصادي وحجم انتشار التعليم الحديث وتباين قوة وتأثير دور القبيلة بين الشمال والجنوب، كل ذلك وغيرها كانت عوامل موضوعية ساهمت في فشل تطبيق مشروعات الوحدة بين شطري اليمن خلال تلك الفترة.

وتؤكد كل الوقائع والشهادات اللاحقة أن قرار قيادات الجنوب في عام 1990، بل ودفعها في اتجاه الإسراع، بتحقيق الوحدة الاندماجية الفورية بين شطري اليمن بدون أي إجراءات تحضيرية أو خطوات تدريجية لم تحكمها اعتبارات المصالح الوطنية أو القومية الوحدوية بقدر ما حكمتها اعتبارات "القفز إلى المجهول"، حيث كان هاجس توقع قرب انهيار الاتحاد السوفيتي، والذي كان بمثابة الحليف الرئيسي في العالم لحكومة عدن آنذاك ومصدر الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري والأيديولوجي لها، والخوف من اليوم التالي لهذا الانهيار هو الدافع لحكام الجنوب آنذاك للتوصل إلى صيغة شراكة في الحكم في دولة الوحدة الجديدة تكفل لهم الاستمرار ضمن صفوف النخبة السياسية الحاكمة بدون النظر لمتطلبات الوحدة الحقيقية أو السعي لتوفير ضمانات استمرارها على أسس مستدامة.

ونظراً لان ما حدث كان دمجاً للجنوب في الشمال وليس وحدة اندماجية كما كان معلناً، ونظراً للطابع الفردي للحكم في الشمال آنذاك بقيادة علي عبد الله صالح والذي أصبح رئيساً وحاكماً بأمره في دولة الوحدة، فإنه سرعان ما تنصل لتعهداته أمام قادة الجنوب وقواه السياسية واستأثر بالسلطة وحده وبالارتكاز على أسس توازنات قبلية بل وذهب خطوة أبعد من ذلك في تلك الحقبة وتحالف مع قوى فكرية وسياسية رجعية وظلامية وأطلق يدها لتعبث بالنسيج الاجتماعي والثقافي والفكري المتقدم نسبياً في الجنوب وتنشر أطروحاتها الظلامية والرجعية، لذا لم يكن من المستغرب، وبعد أربعة أعوام فقط من إتمام الوحدة في أيار/ مايو 1990، وتحديداً في تموز/ يوليو 1994، أن اندلعت حرب من جانب أقاليم دولة الجنوب السابقة تسعى لاستعادة استقلال الجنوب. إلا أن اعتبارات إقليمية ودولية، بالإضافة إلى تفتت وتشرذم قوى الجنوب وقياداتها آنذاك أدت إلى نهاية تلك الحرب بهزيمة الداعين لاستعادة استقلال الجنوب واستمرار الجنوب جزءًا من اليمن الموحد الذي دخل بأكمله حقبة حالكة السواد وشهد تطورات سياسية كان لها آثار تراجيدية على الصعيد الإنساني والاجتماعي على حساب الشعب اليمني والإنسان اليمني بشكل عام، ولكن تضاعف التأثير السلبي على أهل الجنوب بشكل خاص بسبب صيغة ومعطيات عملية الوحدة منذ عام 1990، وتعاظم ذلك التأثير سواء قبل أو خلال أو بعد امتداد ما سمي بـ "الربيع العربي" إلى اليمن منذ عام 2011، ثم تداعيات تعاظم قوة حركة الحوثيين واستيلائهم على مناطق واسعة في اليمن وصولاً للسيطرة على العاصمة صنعاء، وتخلل ذلك مصرع علي عبد الله صالح نفسه في مشهد دراماتيكي.

إذاً، لا يمكن فهم ما يحدث في جنوب اليمن الآن فقط في ضوء الاعتبارات الإقليمية والدولية، بل يجب أن تكون نقطة البداية هي فهم ديناميكيات المشهد الداخلي وخلفياته وتعقيداته، حتى تتصف المعالجة بالدفة ويكون الاقتراب موضوعياً ومتوازناً ومنصفاً.

مفكر وكاتب مصري*

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق