نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
مذكرات نيكولا ساركوزي في السجن: الكتابة كآخر خطوط الدفاع - تواصل نيوز, اليوم الاثنين 29 ديسمبر 2025 12:23 مساءً
ليس سهلاً على رئيس جمهورية سابق أن يكتب من موقع الهشاشة. وليس سهلاً كذلك أن يحوّل أياماً قليلة خلف القضبان إلى مادة سردية تُقرأ بوصفها شهادة شخصية، وبياناً سياسياً، ومحاولة أخيرة لاستعادة السيطرة على روايةٍ أفلتت من يده. هذا بالضبط ما فعله نيكولا ساركوزي في كتابه "يوميات سجين"، الصادر في كانون الأول/ديسمبر الحاري، والذي سرعان ما فرض نفسه عملاً إشكالياً بقدر ما هو خاص وحميمي.
الكتاب، المكتوب كاملاً بخط اليد داخل زنزانة في سجن لا سانتيه، يتعامل مع السجن كصدمة وجودية، ولا يتناوله كحدث عابر أو تفصيل تقني في مسار قضائي. ساركوزي لا يقيس التجربة بالمدة، إنّما بالأثر. ثلاثة أسابيع كانت كافية، في نظره، لإعادة تعريف السلطة، والوقت، والجسد، وحتى اللغة. عالمه السجني يُختزل في لونٍ واحد: الرمادي. لون يبتلع كلّ شيء، الجدران، ضوء النهار، المزاج، ويحوّل الضجيج المستمر إلى ما يشبه التعذيب الصامت.
نسخ من كتاب “يوميات سجين“. (أ ف ب)
يؤكد ساركوزي أنّه كتب الكتاب كاملاً بخطّ يده، داخل زنزانته، وفاءً لطريقة يعتمدها منذ مؤلفاته السابقة. هذه التفاصيل، التي تناولتها الصحافة على نطاق واسع، تسهم في بناء صورة رجلٍ حُرم من كلّ شيء، باستثناء الكتابة، التي يرفعها إلى مقام آخر فضاء للحرية.
في هذا الفضاء المُغلق، يُدوّن ساركوزي يوميات رجل بلا امتيازات، يُعرّف عنه بالرقم 320535 لا باسمه، ويعيش على وجبات شحيحة من مشتقات الألبان، وألواح حبوب الشوفان، وعصير التفاح، والمياه المعدنية. زنزانة تُغلق 23 ساعة في اليوم، نافذة لا تُفتح، وممرّ يُرى ولا تطأه القدمان. المفارقة أن الرجل الذي حكم فرنسا، وأدار أخطر ملفاتها، يعترف بأنه كان مستعداً "لأن يعطي كلّ شيء مقابل أن يتمكّن من النظر عبر النافذة أو للاستمتاع بمشاهدة السيارات وهي تمرّ".
نيكولا ساركوزي وزوجته قبل تسليم نفسه، في باريس. (21 ت1/أكتوبر 2025 - أ ف ب)
مع ذلك، "يوميات سجين" ليس كتاب معاناة بالمعنى التقليدي. النص متقشّف، خالٍ من الميلودراما، ويحرص على الابتعاد عن الشكوى المباشرة. ما يهمّ ساركوزي، الذي تولّى الرئاسة بين عامي 2007 و2012، هنا هو الأثر النفسي لما يسميه "المسار القضائي"، ذلك النظام الذي - بوعي أو من دونه - يعمل على كسر المتهم، ودفعه إلى الشعور بالذنب، أيّاً يكن هذا الذنب. في مواجهة ذلك، يقدّم الكتابة كفعل مقاومة، وكآخر فضاء للحرية. القلم والطاولة الخشبية أدوات البقاء.
يتخلل السرد حضور واضح للإيمان لدى الرئيس الذي ظلّ، بحماية ضابطي أمن في السجن، حبيس زنزانته لمدة 23 ساعة يومياً، باستثناء أوقات الزيارة. لحظات الصلاة داخل الزنزانة، وزيارات الكاهن أيام الأحد، تُقدَّم للقارئ كملاذ داخلي. يتحدّث ساركوزي عن رسائل وصلته، وعن دموع ذرفها وهو يقرأها، وعن اكتشاف متجدّد لما يسميه "الجذور المسيحية لفرنسا"، وتُضيف هذه الصفحات بُعداً وجودياً للكتاب، وتمنحه نبرة تأمّلية نادرة في أدبيات السياسيين الفرنسيين.
غير أنّ الجانب الأكثر إثارة للجدل يبقى سياسياً بامتياز. "يوميات سجين" هو أيضاً كتاب دفاع، وساركوزي يُعيد تأكيد براءته في ملف التمويل الليبي، الذي يصفه بأنه "بناء قضائي" و"مأساة ديموقراطية". بل يذهب أبعد، حين يقارن نفسه بالنقيب ألفريد دريفوس، الضابط في الجيش الفرنسي الذي أُدين ظلماً بتهمة الخيانة عام 1894، في قلب قضية باتت رمزاً صارخاً للخطأ القضائي ومعاداة السامية، وقسّمت فرنسا بعمق. تشبيهٌ أثار ردود فعل قوية لدى مؤرخين وكتّاب رأي، رأى فيها بعضهم تشبيهاً مبالغاً فيه، فيما اعتبرها آخرون استراتيجية خطابية مقصودة.
نيكولا ساركوزي يوقّع نسخاً من كتابه في باريس. (10 ك1/ديسمبر 2025 - أ ف ب)
يفاجئ ساركوزي القارئ بتعاطفٍ شخصي مُعلَن مع مارين لوبان، "باسم الاستمرارية والوضوح الأيديولوجي"، كما يكتب، مقابل قطيعة واضحة مع إيمانويل ماكرون، الذي يتّهمه بإفراغ وظيفة الرئاسة من مضمونها السياسي. وقد حظيت هذه المقاطع بتعليقات واسعة في صحف فرنسية مثل "لوموند" و"لو فيغارو" و"ليبراسيون"، وأسهمت في إذكاء النقاش حول الإرث الفكري والسياسي للرئيس السابق.
منذ صدوره، تصدّر الكتاب قوائم المبيعات، مؤكداً أن نيكولا ساركوزي - رغم الإدانة، والسجن، والابتعاد الرسمي عن السلطة - لا يزال شخصية قادرة على جذب الانتباه واستفزاز الرأي العام، ولا يزال شخصية مؤثرة في اليمين الفرنسي. عند تقاطع السيرة الشخصية، والبيان السياسي، ومحاولة استعادة السردية، يُقدّم "يوميات سجين" نفسه وثيقةً عن رجل يرفض الصمت، حتى حين تُغلق الأبواب من حوله. الكتاب، الذي أكّد ساركوزي لـ"لو فيغارو" أنّه كتبه بقلم حبر جاف على طاولة خشبية صغيرة يومياً، وأنهاه بعد إطلاق سراحه في 10 تشرين الثاني/نوفمبر، هو كتاب يفرض نفسه ليُقرأ ويُجادَل، ويُشكّل محطة أساسية لفهم المرحلة الأكثر هشاشة في المسار العام لنيكولا ساركوزي.








0 تعليق