نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
حصري فقط على تواصل نيوز - جعفر العلوني يقاوم الشتات في ديوانه "خريطة تحترق" - تواصل نيوز, اليوم الأحد 15 يونيو 2025 07:53 صباحاً
تواصل نيوز - ينسج الشاعر السوري جعفر العلوني في ديوانه الجديد "خريطة تحترق" (دار الساقي، 2025) من الرماد القاتم، والأشلاء الممزقة، والبقايا المبعثرة من حوله، مشهداً موازياً في الخلفيّة، مضيئاً بالخلايا المتجدّدة وأنفاس القصائد، منسلخاً من تلك الحياة الزائلة الزائفة التي "لا تستطيع الحياة أن تحيا فيها".
يقدّم الشاعر تجربته العارمة عارية على الطاولة، مجرّدة من الأثقال والأعباء والزخارف، متحلّلة من بوصلات الأمكنة وعقارب الوقت، ممتنعة عن الاستسلام للفَناء المزعوم في تنظيرات العدميين. وهي تجربة مشحونة على طول الخط باشتعالاتها وانفجاراتها الخاصة، في ما يبدو كفعل مقاومة لاحتراق الخرائط، وتشظّي الذات، وغياب العالم "أنتَ، يا مَن تغادرُ الآن أرضكَ، بحثاً عن المسافات، عن الحياة والموت، عن قلبِ العالم وقلبِكَ، هل قادتكَ النجومُ؟".
هل للكتابة الإبداعية أن تكون سحابة مؤثرة في وجود قاحل لا يؤثر فيه المطر السماوي، "المطر ينزل كل يوم، لكنه أعجز من أن يغيّر شيئاً"؟ وهل للتربة الأرضية والكونية أن تُنبت شيئاً آخر غير الجدب والجفاء والجفاف والشتات والدمار والزلازل والبراكين والعواصف المُهلكة والتلوّث الذي يُخزّن في الرئات النحاسية والمقهورة؟
هذا الخروج عن النسق، سلوكيّاً وروحانيّاً وجماليّاً في آن، تحت مظلة القصيدة المدهشة المباغتة، هو ما يراهن عليه الشاعر المتفاعل، المتصالح بالضرورة مع ذاته في حضورها وغيابها. وهو يمدّ يده أيضًا للظلال والأشباح لتُصالح أطيافَها المفقودة، ويمدها لوسادة الأشواك والآلام لتصافح الأحلام وقوس قزح، كما أنه يعيد القصاصات المتناثرة والمتفحمة إلى أصلها، ليس كأوراق مصنوعةٍ ومخطوطٍ عليها بالحبر، وإنما كأجزاء من لحاء شجرة.
طبقات الاغتراب
يتخذ الشاعر جعفر العلوني، المقيم في إسبانيا، من النأي عن الوطن أو ما يمكن تسميته المنفى الاختياري مَعْبراً دالّاً لإثارة تساؤلات أشمل وأعمق. هذه التساؤلات الإشكالية تتعلّق بطبقات الاغتراب الإنساني، والارتحال في متاهة الداخل، وجدوى العيش بلا معنى ولا هدف، ومغزى قطع المسافات بلا وصول "مَن الغريب؟ مَن غادر بيته؟ مَن ضيّع الخطوات؟/ أصدقائي؟/ لا زمان يجمعنا، لا مكان يضمّنا/ من الغريب؟ من يجهل خطواتي؟/ رجلُ المسافات يعود الآن، وفي فمه طعم الموت والحياة، في شَعره رائحة النسيان، وفي جسده عروق غامضة".
ينجو الشاعر من سراب الإغواءات المخادعة ونداءات الأسطح القريبة المراوغة، ليغوص خلف حقيقة الكينونة الآدمية ومقوّمات الماهية الصلصالية الدافئة، بعدما تحجّر كل كائن، وتجمّد كل شيء، وتحول البشر إلى مجرد أرقام حسابية جوفاء أو شرائح إلكترونية أو آلات كمبيوترية، تخضع للترويض والبرمجيات، وتهتف ميكانيكيّاً لثورات العتمة، بدعوى المدنية والتحضر والعصرية "اتصالاتٌ وشبكات، إلكتروناتٌ، جسيماتٌ وذراتٌ تؤسّس لمجتمعات تُديرها روبوتات لا تعرف أن تحب".
يكثف العلوني شعريّاً كل لحظات التعثر، والنهوض من جديد، والكشف، والقنص، في مساعيه الدائمة لاستساغة ما يجري من أحداث وصور، بإعادة رؤيتها، وفهمها، وتأويلها، وفق بصيرة مغايرة، تتجاوز الرصد، وتعتمد التفكير والتخييل والتخليق وإيجاد البدائل الملائمة "بدلتُ سربالي، ولبستُ وجه النسخة التي تكتب هذه القصيدة".
هو يترك الغيوم السوداء خلفه، لا يعيرها انتباهاً، ليمشي مسكوناً بالنار المتوهجة، التي تضيء، وتفسّر، وتُنضج، ولا تحرق أبداً "ألبس ثوب المسافات/../ الشعر يكشف خطواتي/ ../ منذ أن طردتُ عقارب الوقت، صار كل نجم قنديلاً لدربي".
توقعات الأبراج
في قاموسه، الذي يعيد فيه تعريف كل مفهوم، يقترح الشاعر أيضاً سلسلة من التوقعات العشوائية البائسة، التي تنتظم فيها مصائر البشر، ولا سيما في العالم العربي المحكوم بالحديد والنار، والذي لا يزال مشغولاً بمقولات الأبراج الفلكية، بوصفها ذات مصداقية "هذه أوراق سرية، فيها ما كتبته الأبراج عن ذلك الكائن، الذي يُسمَّى الإنسان العربي. لستُ أنا من قالها، بل ناقل وترجمان".
غلاف ديوان “خريطة تحترق“. (دار الساقي)
تتّسم نصوص العلوني بنزعة تهكّمية ساخرة، كحيلة من حيل تحدّي الأخطار الجسيمة، والتصدي لها، ومواجهتها بالاستهانة بها إلى حدّ الاستهزاء. يقول بلسان المنجّم مخاطباً مواليد برج الحمل "يقولون إنك أوّل الربيع. كان اسمك السكّين وصار الحمل. لا فرق، خُلقتَ كي تُذبح أو تُساق للذبح. ربما لهذا يُقال عنكَ إنك طبقٌ أوّل على موائد الملوك والسلاطين".
وبالفكاهة السوداء نفسها، يتردد على الأبراج المأسوية كلها، ليذيع نشرة الأخبار التي تصف تفاصيل التراجيديا في الواقع العربي المأزوم والمهزوم، فيناشد بلسان العرّاف أولئك المنتمين إلى برج الدلو "افتح جوفك أيّها الدلو، ولتسقط منك الجماجم". ويتندر على أبناء برج الثور "هل يمكن أن يكون الثور قناعاً؟/ حياتك نطحٌ ونطحٌ ونطح. مع ذلك لا تنطح إلا الهواء"، ويشاكس المنتسبين إلى برج القوس "حكمة اليوم: ليس كل من رمى أصاب!".
سردية الذات والآخر
وفي حين يدّعي الشاعر أنه "يروي حياته لنفسه"، فإنه لا يكتب سيرة ذاتية أحادية بقدر ما يطرح سردية الذات والآخر معاً، في تجاورهما وتحاورهما، وتشابكهما وتصارعهما، وتجاذبهما وتنافرهما، وانعكاس كل منهما في مرآة الآخر "عشتُ في أجسام كثيرة، ولم أسكن أيّاً منها/ في فراشي ينامُ العشاق الذين عرفتهم/ جلدي خريطة يلتقي فيها الشرق والغرب/ ثيابي خلعتها للريح ومنحتُها جواز سفر لتعبر الثلج".
وهذا الآخر قد يكون أيضاً الأخرى بطبيعة الحال، أو تلك المرأة العادية في بعض الأحيان "أعلّق على الجدران صورةَ امرأةٍ بائسة"، كما أنها قد تكون الأنثى الاستثنائية في أحيان أخرى، التي "عمرها عشرون خريفاً، ولا تجيء إلا في الربيع"، و"البريئة إلى درجة أنها لا تحبّ أن ترى كلباً مربوطاً"، والتي "لا تضعُ قرطاً ولا عقداً، ولا تلبس خلخالاً"، والتي"تكرهُ الحروب والظلم والفقر".
ومثلما تتعايش الذات المتشرذمة مع فوضاها "أكتشفُ فيَّ أطيافاً لا أعرفهم، حيواناتٍ لم تروض، نباتاتٍ غامضة، سلالات معدنية غير مصنوعة، أبعاداً لا نظام لها إلا الفوضى"، فإن هذه الذات تشارك الآخر/ الأخرى/ الآخرين تلك الفوضى التي تسود في سائر الفضاءات، وتتغلغل في كل العلاقات، وتصبغ كل المفاجآت والمغامرات والرحلات، وتصنع كل الأساطير "في الريح أسرارُنا/ في حضنها تقلّبُ الكواكبُ أساطيرَ الفصول والأيام".
0 تعليق