ألقى برأسه على جدار السجن الخشن الذي حفظ حرارة جسده لسنوات ، رفع عينيه نحو السقف الموشى بخيوط العنكبوت ، كأن الزمن هنا لا يتحرك الا ببطء الأسرى .

تعود ذاكرته الى الوراء : حضن أمه ، قبلات أبيه وجده ، ابتسامة زوجته ، وضحكات أبنائه التي كانت تصله كأصداء بعيدة .

تتسارع نبضات قلبه بين الأمل والخوف ، لا يدري ما الذي ينتظره خلف الأسوار التي علق عليها عمره الطويل ، ولا ان كان الخارج ما زال يشبه الحلم الذي يراوده كثيرا .

يتساءل دائما : هل ستعرفني زوجتى وابنائي ، ولم يبق مني الا عينين غائرتين ،وشفاه مشققة من شدة التجويع والتعطيش ، وجسد مشوه بذراع واحدة .

يمرر أصابعه المرتجفة من كثرة الصعق على وجهه كأنه يتحسس ملامحه الضائعة في مرايا الذاكرة .

وفي لحظة لم يتوقعها ، سمع اسمه يتردد في الممر ، بين صرير المفاتيح وصفير الحراس ، فارتجف قلبه كعصفور صغير يعشق الحرية لكن جناحيه ما زالا مكبلين بالأصفاد .

هل سيرى ضوء الشروق الذي كان يحبه يوم كان يحرث أرضه ويداري زرعه؟ هل سيضم صغاره ويذوق من أطباق زوجته ،و يشم ضفيرة والدته ويجالس والده في فناء الدار؟ أم ان ذلك أصبح بعيد المنال، وقد مر وقت طويل على آخر مرة احتضن فيها الحياة خارج الأسوار؟

بدا ان الفرج يلوح قريبا ، فتحت البوابة الضيقة ، اقترب منه الحارس سحبه من يده الوحيدة واخرجه بعنف قائلا : اخرج قبل ان نقتلع يدك الأخرى من جذورها .. ارتدى اللباس الذي وزع على زملائه للخروج عبر بوابات الموت الى الأفق الرحب. خرج بخطوات ثقيلة من بوابة السجن بين ضوء يلسعه وسماء مختلفة عن التي كان يراها من كوة زنزانته، التي شهدت كل صنوف العذاب الجسدي والنفسي واللفظي .

انتقل مع زملائه الأسرى المفرج عنهم عبر حافلات اقلتهم الى منطقة خان يونس ،تحديدا عند المستشفى الميداني المستحدث في مجمع ناصر الطبي .

هناك ازدحمت الوجوه التي تنتظر بلهفة ، بين التصفيق والدموع استقبل الفلسطينيون ابناءهم واقاربهم ، تعانقت الأجساد التي انهكها الانتظار ، وارتفعت أصوات زغاريد الأمهات ، كأن الفرح في فلسطين لا يولد الا من رحم الألم .

وبحسب مؤسسات الأسرى ، فان عدد المعتقلين في سجون الاحتلال يتجاوز 11 الف معتقل ، يعانون أوضاعا كارثية تشمل التعذيب والتجويع والإهمال الطبي الممنهج المفضي الى الموت .

وسجل من بين هؤلاء خمس وخمسون أسيرة ، وطفلتان ، فيما يقبع نحو اربعمائة طفل أسير في سجني عوفر ومجدو .

من كاميرات بثت مشاهد الافراج عن الأسرى الفلسطينيين ال 1786 الذين افرج عنهم يوم الاثنين 13 أكتوبر ضمن المرحلة الأولى من خطة أعلنت، انتقلت عدسات أخرى نحو شرم الشيخ لتغطية المشهد السياسي .

ترأس الرئيس الأمريكي أعمال المؤتمر ، الى جانبه الرئيس المصري الذي استضافت بلاده مؤتمر توقيع اتفاقية وقف اطلاق النار ، فيما تواصل كل من قطر وتركيا جهود الوساطة ، بمشاركة ممثلي عشرين دولة أعلنت دعمها وتأييدها للاتفاق المبرم .

أدى تراجع الدعمين الرسمي والشعبي لإسرائيل ،وتضاعف عزلتها الدولية بعد اكتشاف زيف رواياتها ، الى رضوخها لشروط السلام الذي تم الإعلان عنه وبالآلية المتفق عليها وتوقيع اتفاقية انهاء الحرب ، فقد باتت اسرائيل تبحث عن صورة نصر حتى لو كانت وهمية .

إسرائيل التي كانت تقدم نفسها للعالم كدولة ديموقراطية وحامية للقيم الإنسانية ، أصبحت اليوم منبوذة ومطلوبة للعدالة الدولية .

كما تراجعت شعبية الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في الآونة الأخيرة ، بسبب دعمه للمجازر التي ارتكبها نتنياهو ، وتأييده الكامل لسياسات إسرائيل ، ما أسهم في تشويه صورته أمام الرأي العام العالمي ، وكسر الخطاب الذي كان يروج من خلاله لسياسة " تحقيق السلام " في العالم ، ولا سيما في الشرق الأوسط .

بالإضافة الى أن صورة كل من إسرائيل والولايات المتحدة باتت متصدعة ، وفقد كل منها جزءا كبيرا من شعبيته داخل بيته ، في ظل تصاعد المظاهرات الشعبية الدولية التي تنادي بوقف الحرب وتدعم صمود أهل غزة الأسطوري .

الخطة التي طرحتها واشنطن ووافقت عليها حماس وإسرائيل ، نصت على وقف اطلاق النار ، وهذا ما حدث فعلا ، مقابل الافراج عن عشرين رهينة إسرائيلية لا زالت على قيد الحياة ، وفك أسر نحو 1986 فلسطينيا من سجون الاحتلال ، تم الافراج عنهم يوم أمس ،وفتح المعابر لتسهيل دخول المساعدات ضمن المرحلة الأولى من الاتفاق .

توقفت الحرب بعد أن فقد الجيش الإسرائيلي قدرته على الردع ،وفشل مخطط التهجير والتطهير العرقي، وأثبتت المقاومة الفلسطينية صمودها بعد عامين من التضحية والفداء ، استشهد فيها أكثر من 67 الف فلسطيني ، جلهم من النساء والأطفال .

يجب ان تنطلق المرحلة الثانية من الاتفاق بعد إتمام عملية تبادل الاسرى ، والزام إسرائيل على الانسحاب الكامل ضمن المهل المتفق عليه ، بعدها تبدأ معركة الاعمار تمهيدا لاستعادة الحياة على أرض فلسطين الطاهرة .

أما بقية التفاصيل سنعرفها قريبا..