السعودية والهيدروجين الأخضر: حين تعيد الجغرافيا كتابة معادلات الطاقة - تواصل نيوز

اخبار جوجل 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
السعودية والهيدروجين الأخضر: حين تعيد الجغرافيا كتابة معادلات الطاقة - تواصل نيوز, اليوم الاثنين 29 ديسمبر 2025 07:41 مساءً

في لحظات التحول الكبرى، لا تُقاس الدول بخطاباتها، بل بقدرتها على استباق التاريخ. والسعودية، التي عاشت قرنًا كاملًا في قلب معادلة النفط، تبدو اليوم كمن يتهيأ للقفز خارج القالب، لا هروبًا من الماضي، بل حفاظًا على موقعها في المستقبل، فما يجري على ساحل البحر الأحمر ليس مشروع طاقة فحسب، بل إعادة تعريف صريحة لدور المملكة في الاقتصاد العالمي القادم.

على تخوم الرياح والشمس، وفي جغرافيا لطالما عُرفت بالقوافل لا بالمفاعلات الصناعية، يتشكل أحد أضخم مجمعات الطاقة الخضراء في العالم.

مساحة شاسعة، تتجاوز مقاييس المدن، تُسخّر بالكامل لإنتاج الهيدروجين الأخضر، ذلك الوقود الذي يُنظر إليه باعتباره «نفط القرن الحادي والعشرين»، هنا، لا تُبنى محطة، بل منظومة مكتملة: توليد، تحويل، تخزين، ثم تصدير… اقتصاد كامل يولد من رحم التحول العالمي.

المفارقة أن المشروع الذي قوبل قبل سنوات بالاستخفاف والسخرية، بات اليوم حقيقة مادية تكاد تكتمل. فحين تقترب أعمال الإنشاء من نهايتها، يصبح السؤال مختلفًا: ليس هل ينجح المشروع؟ بل ماذا يعني نجاحه في ميزان القوى الاقتصادية والجيوسياسية؟

اقتصاديًا، تراهن السعودية على منطق الحجم. فالهيدروجين الأخضر يعاني عالميًا من معضلة الكلفة، ولا سبيل لكسرها إلا عبر الإنتاج واسع النطاق، لذلك لم تُبنَ هذه المنظومة لتكون تجربة أو واجهة بيئية، بل لتعمل كآلة صناعية عملاقة، تخفض التكاليف، وتنافس في أسواق التصدير، وتفرض نفسها لاعبًا مبكرًا في سوق لم تستقر بعد قواعده.

لكن الاقتصاد هنا لا ينفصل عن الجغرافيا السياسية، فالعالم الذي يسعى لتقليل اعتماده على الوقود الأحفوري، لا يستطيع القفز فجأة إلى الفراغ، أوروبا، شرق آسيا، وحتى بعض الصناعات الأميركية الثقيلة، تبحث عن مورد طاقة نظيف ومستقر وعابر للحدود، والسعودية، بخبرتها التاريخية في سلاسل الطاقة، تحاول أن تقول بوضوح: إذا كان النفط قد شكّل القرن العشرين، فإن الهيدروجين قد يشكّل القرن الحادي والعشرين… ونحن حاضرون في قلبه.

فلسفيًا، يحمل المشروع دلالة أعمق، إنه انتقال من منطق الاستخراج إلى منطق التحويل، من اقتصاد الريع إلى اقتصاد القيمة المضافة، من استهلاك الجغرافيا إلى توظيفها. الشمس التي كانت عبئًا مناخيًا، والرياح التي لم تكن سوى خلفية صحراوية، تتحولان إلى رأس مال استراتيجي، وكأن المملكة تعيد قراءة عناصرها الطبيعية بعين جديدة، أكثر تصالحًا مع المستقبل.

تاريخيًا، لم تكن الدول التي قادت تحولات الطاقة مجرد منتجين، بل صانعي نظام، بريطانيا مع الفحم، الولايات المتحدة مع النفط، ثم لاحقًا مع الغاز، واليوم، تحاول السعودية أن تدخل هذه السلسلة، لا عبر التمسك بالماضي، بل عبر إعادة تدويره سياسيًا واقتصاديًا، فالهيدروجين الأخضر ليس قطيعة مع دور الطاقة، بل تطورًا فيه.

ومع ذلك، تبقى المرحلة الأصعب هي ما بعد الاكتمال، فالتشغيل، والتكامل بين الأنظمة، وضبط المخاطر، كلها اختبارات لا ترحم المشاريع العملاقة، هنا فقط يُقاس الفرق بين الطموح والرؤية، وبين البناء والتشغيل، غير أن مجرد الوصول إلى هذه العتبة يعني أن المملكة نجحت في نقل خطاب التحول من الورق إلى الأرض.

في المحصلة، ما يجري على ساحل البحر الأحمر ليس مجرد منشأة صناعية، بل إعلان ضمني عن ولادة اقتصاد سعودي جديد، اقتصاد لا ينكر النفط، لكنه لا يرهن المستقبل له، اقتصاد يحاول أن يصعد مبكرًا إلى منصة ما بعد الكربون، قبل أن تُغلق الأبواب وتُعاد كتابة قواعد اللعبة.

ومن هذه النقطة تحديدًا، يصبح النموذج السعودي مرآة مفتوحة لدول عربية أخرى، وفي مقدمتها مصر.

من منظور باحث في الجيوسياسية والاقتصاد السياسي للطاقة، فإن التجربة السعودية تفتح بابًا واسعًا لإعادة قراءة الجغرافيا العربية المناخية، لا باعتبارها عبئًا، بل باعتبارها أصلًا استراتيجيًا غير مستغل، فالصحراء الغربية المصرية، بما تمتلكه من واحد من أعلى معدلات السطوع الشمسي في العالم، ومساحات هائلة غير مأهولة، تمثل احتياطيًا طاقويًا مستقبليًا لا يقل أهمية عن أي حقل نفط أو غاز.

الظروف المناخية القاسية، التي لطالما وُصفت بأنها عائق أمام التنمية، تتحول في عصر الطاقة النظيفة إلى رافعة اقتصادية، الشمس لم تعد طقسًا، بل مورد إنتاج دائم، والرياح لم تعد ظاهرة موسمية، بل عنصرًا في معادلة أمن الطاقة. هنا، يتغير تعريف الثروة ذاته، ويتحول المناخ من مشكلة إلى حل.

جغرافيًا، تمتلك مصر ميزة إضافية حاسمة: القرب المباشر من أوروبا عبر جنوب البحر المتوسط. ففي لحظة تبحث فيها أوروبا عن بدائل استراتيجية للغاز الروسي والوقود الأحفوري، تصبح مصر مرشحًا طبيعيًا للعب دور بوابة الطاقة النظيفة من الجنوب إلى الشمال. الربط الكهربائي، وخطوط النقل البحرية، والبنية التحتية القائمة، تضع القاهرة في موقع فريد داخل معادلة الطاقة الأوروبية القادمة.

إن تبنّي مصر لمشاريع كبرى في الطاقة الشمسية والهيدروجين الأخضر داخل الصحراء الغربية لا يعني فقط إنتاج كهرباء أو وقود نظيف، بل يعني إطلاق مسار تنموي طويل الأمد: مدن صناعية جديدة، وظائف نوعية، نقل تكنولوجيا، وتثبيت سكاني في مناطق ظلت لعقود خارج حسابات التنمية، هنا، يلتقي الأمن الاقتصادي بالأمن الاجتماعي، وتتحول الطاقة إلى أداة استقرار لا مجرد سلعة تصديرية.

وعلى المستوى العربي الأوسع، تطرح التجربة السعودية، وما يمكن أن تلحق بها مصر، سؤالًا مصيريًا: هل يبقى العالم العربي موردًا تقليديًا للطاقة الخام، أم يتحول إلى لاعب مركزي في سوق الطاقة الجديدة؟ فالتحول العالمي لا ينتظر المترددين، ومن يتأخر عن دخول هذا السباق، سيدفع لاحقًا ثمن التبعية التكنولوجية والاقتصادية.

فلسفيًا، نحن أمام لحظة نادرة في التاريخ، تتغير فيها أدوات القوة دون أن تتغير الجغرافيا، الأرض هي ذاتها، لكن معناها يتبدل، الصحراء التي كانت رمز الفراغ تصبح خزان المستقبل، والشمس التي كانت سبب القسوة المناخية تتحول إلى مصدر للثروة والسيادة.

إن الاستثمار في الطاقة النظيفة ليس ترفًا بيئيًا، بل خيارًا سياديًا بامتياز، خيار يحدد موقع الدول في النظام الدولي القادم، والسؤال المطروح على مصر والعالم العربي ليس: هل نملك الشمس والرياح؟ بل: هل نملك الإرادة السياسية والرؤية الاستراتيجية لتحويل المناخ إلى قوة؟

في هذا السياق، لا تبدو السعودية حالة استثنائية، بل تجربة افتتاحية في زمن جديد للطاقة، ومن يلتقط الإشارة مبكرًا، سيكون شريكًا في رسم الخريطة المقبلة، أما من يتأخر، فقد يجد نفسه خارج التاريخ… كما خرج غيره من قبل من زمن الفحم، ثم من ذروة النفط.

كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية، ، !!

اقرأ أيضاً
بديل آمن للحصول على التأشيرة.. «الحج السعودية» تطلق منصة «نسك» لخدمة المعتمرين المصريين

وزير الدفاع السعودي يدعو الانتقالي الجنوبي باليمن للاستجابة لإنهاء التصعيد

موعد مباراة السودان وغينيا الاستوائية في كأس أمم أفريقيا 2025.. والقنوات الناقلة

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق