نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
بطمة الشوفيّة بين الأمس واليوم - تواصل نيوز, اليوم الأربعاء 31 ديسمبر 2025 05:53 مساءً
سلمان زين الدين
كثيرةٌ هي الكتب التي تتّخذ من المدن والقرى موضوعًا لها. وغالبًا ما يكون المؤلّف هو ابن المدينة أو القرية، فـ"أهل مكّة أدرى بشعابها". ولعلّ كتاب "بطمة في عيوني"، الصادر عن الدار التقدّمية، للمربّي خالد زين الدين، هو أحد أواخر الكتب المتّخذة من القرية موضوعًا لها. ذلك أنّه يتناول فيه قريته بطمة، جارة المختارة، من مختلف جوانبها. وبذلك، يثبت أنّه ابنٌ بارٌّ بها، ويقوم بواجبه نحوها، على أفضل وجه.
في العنوان، نشير إلى أنّه ينطوي على دلالتين اثنتين؛ الأولى مباشرة وتحيل إلى القرية، كما يراها المؤلّف، والثانية غير مباشرة، وتدلّ على احتضانه قريته في عينيه. والدلالتان تجدان ترجمتهما في متن الكتاب.
في المتن، يقع الكتاب في 575 صفحة، ويشتمل على مقدّمة وسبعة عشر فصلاً، تتناول القرية من مختلف جوانبها، ويتمّ تذييله بأربع وثلاثين وثيقة مختلفة. وبذلك، نكون إزاء كتاب مرجعي يغطي شؤون القرية وشجونها، وهو حصيلة "سنوات من البحث والتدقيق"، كما يشير المؤلّف في المقدّمة. وقد تنوّعت مصادر بحثه، وتراوحت بين كتابات المؤرّخين، ومشاهدات الرحّالة، وما رآه بنفسه، وما حفظه في ذاكرته، وما وصل إليه من وثائق محلّية أو مستلّة من الأرشيف العثماني والروسي والفرنسي. وعليه، تجمع المصادر بين الذاتي والموضوعي والخاصّ المحلّي والعامّ الخارجي. على أنّ استخدام المؤلّف لهذه المصادر لا يتمّ بطريقة أكاديمية يوثّق فيها المصدر الذي استقى منه معلوماته، أسفل الصفحة أو في نهاية الفصل، بل قد ترد الإشارة إلى المصدر في متن الفصل، وهو ما يتناسب مع الفئة المعنيّة بالكتاب، وهي القرية بالدرجة الأولى.
لا يقتصر التنوّع في الكتاب على المصادر المذكورة أعلاه بل يتعدّاه إلى مادّة الكتاب نفسها التي تتوزّع على عدد من الحقول المعرفية، الجغرافية والتاريخية والاقتصادية والثقافية والتربوية والدينية والسياسية. وهكذا، تتعدّد العيون التي يرى بها المؤلّف إلى قريته وتتنوّع. ولعلّ ذلك يُشكّل انعكاسًا لتعدّد الحقول المهنيّة التي خاض فيها، وهو الذي درس التاريخ في الجامعة اللبنانية، ومارس التعليم والإدارة التربوية، وعمل في الصحافة لربع قرن، ورأس بلدية القرية لستّ سنوات، وله اهتماماته الأدبية.
وإذا كان المقام لا يتّسع للخوض في تفاصيل الحقول المعرفية المختلفة التي يتناولها الكتاب، فحسبُنا الإشارة إلى بعض عناوينها لتقديم صورة تقريبية له. على أنّ هذا التقريب العناويني لا يُغني عن العودة إلى المتون طلبًا للفائدة، وتوخّيًا لكثير من "الإمتاع والمؤانسة"، على حدّ تعبير جدّنا أبي حيّان التوحيدي. ومن الجدير بالذكر أنّ أنصبة هذه الحقول في الكتاب تتفاوت بين حقل وآخر، لكنّها تتضافر جميعها لتقديم صورة بانورامية واضحة عن القرية، من مختلف الجوانب.
ـ في الجغرافيا، نتعرّف إلى موقع بطمة، عند سفح جبل الباروك، على تلٍّ يرتفع ألف مترٍ عن سطح البحر، ويبعد عن بيروت خمسة وخمسين كيلومترًا.
ـ في التاريخ، شهدت بطمة ما شهده الشوف الأعلى، عبر التاريخ، من هجرات متعاقبة، بيزنطية ورومانية وصليبية وعربية. ومن هذه الأخيرة، تتحدّر جميع عائلاتها، سواء تلك المقيمة فيها أو التي رحلت عنها.
ـ في الدين، قدّمت بطمة ثلاثة شيوخ عقل، خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، هم الشيخ أبو صفيّ الدين محمود، والشيخ شرف الدين علي الحريري، والشيخ شرف الدين حسن العضيمي.
ـ في الاقتصاد، يلقي الكاتب الضوء على مهن انقرضت، من قبيل: المكاري، المجبّر، قالع الأسنان، الإسكافي، البيطار، المبيّض، الجلالاتي، المنجّد، مقشّش الكراسي، وغيرها. ويتناول صناعات قروية، غذائية ويدوية، زالت أو هي في طريق الزوال، من قبيل: البرغل، الكشك، الدبس، القش، القز، الخياطة، التطريز، الفحم، المكانس، الأحذية، وغيرها.
ـ في الثقافة الشعبية، يتناول زين الدين أنماطًا من الشعر الشعبي، من قبيل: الندب، الحداء، الحوربة، الزلغوطة، الزجل، وغيرها. ويقدّم نماذج مختصرة عن كلٍّ منها.
ـ في الأنثروبولوجيا، يتوقّف عند العادات والتقاليد في المناسبات المختلفة، ويبيّن أنماط العيش والمعتقدات الشعبية وأدوات الإنتاج في مجتمع ريفي زراعي.
ـ في التربية، يرصد تطوّر الوضع التربوي في القرية، بدءًا من مدرسة تحت السنديانة حتى الغرف المستأجرة في البيوت المتجاورة. ويذكر المعلّمين الأوائل الذين تعاقبوا على التدريس. ومن المفارقات التي تقتضي الإشارة إليها، في هذا السياق، اضطراره إلى تجميع تجهيزات التدريس من مدارس مجاورة، حين عُهِد إليه إعادة فتح المدرسة، في الثمانينيات من القرن الماضي.
ـ في السياسة، يشير الكاتب إلى الرعاية التي حظيت بها البلدة، عبر تاريخها الحديث، من الزعامة الجنبلاطية، بحكم الجوار، من جهة، والولاء، من جهة ثانية، لا سيّما من قبل الشهيد كمال جنبلاط، والزعيم وليد جنبلاط.
وبعد، هذه الوقائع وغيرها تشير إلى الكتاب ولا تختصره، وهي مجرّد إشارات إلى ما تميّزت به بطمة من علامات فارقة، وما عُرِف به أهلها من كرم النفوس وطيب النوايا وصدق القول وحسن التعايش، عبر التاريخ. وهي غيضٌ من فيض الكتاب الذي أراده صاحبه عربون وفاء لقريته، وكتبه شعورًا منه بالواجب نحو أهله، وشاءه مرجعًا للدارسين والباحثين. وبذلك، يثبت أنّه بارٌّ بأهله، مُنْتَمٍ لقريته، ويستحقُّ التحيّة والتقدير.












0 تعليق