الدنيا أم - تواصل نيوز

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الدنيا أم - تواصل نيوز, اليوم الأربعاء 31 ديسمبر 2025 06:03 مساءً

شرف أبو شرف

الدنيا أمّ
فكيف تكون الدنيا حين تغيب الأم؟
وكيف يكون العيد عيدًا إن غاب قلبه النابض؟
الام هي الحياة نفسها، معناها الأول ودفؤها الأخير. ونبقى دومًا بعد رحيلها، في شوق الى حنانها ودعائها. ترافقنا ذاكرتها في كل خطانا. 

يحضرني صديق ذو شأنٍ اجتماعيّ رفيع، مدير في إحدى الشركات، رأيته يومًا في المستشفى يدفع الكُرسيّ المتحرك لوالدته الثمانينية، قاصدًا طبيبها ليخفّف عنها آلام مرضٍ أنهك عظامها. كان يبتسم، غير أنّ ابتسامته كانت قناعًا شفيفًا لحزنٍ دفين. كان شديد التعلّق بها، ضعيفًا أمام ضعفها، منكسرًا أمام وجعها.

 

أما هي، فجلست صامتة على كرسيّها، شاكرة له عنايته، كأنها تصلّي له دون كلمات. بدا في عينيها حزنٌ آخر؛ حزن الأم التي تشعر، ولو وهمًا، أنها باتت حِملًا ثِقيلًا على من تحب. خُيّل إليّ أنها تتمنى الرحيل، لا هروبًا من الحياة، بل رحمةً بأبنائها، لتستريح وتُريح.
بعد وقتٍ قصير، بلغني خبر وفاتها. حزنتُ لحزنه، وفرحتُ لمصيرها. قلت في نفسي: كفاها ألمًا وأوجاعًا، لقد ذهبت لملاقاة خالقها. 

 

إن الفراق موجع للأحياء دائمًا، أما الراحلون، فأحسبهم ينتقلون إلى حالٍ أصفى مما نعيشه على هذه اليابسة. وهل ثَمّة عذابٌ أشدّ مما اختبرناه هنا؟ لا أظن ذلك . نعم، إن الفراغ قاسٍ، قاسٍ حدّ الوجع.

 

يوم غادرت والدتي هذه الفانية، عشت الشعور ذاته: دهشة الصمت، وثقل الغياب، والبيت الذي فقد دفئه وصوته. وتذكّرت صديقًا آخر أصيبت والدته بمرض ألزهايمر، فاعتنى بها سنواتٍ طويلة، صابرًا ومحبًّا. كان حزنه عميقًا يوم رحلت إلى دنيا البقاء. لا أنسى كلماته حين زرته معزيًا، قال لي:
«الأم قصة كبيرة جدًّا يا صديقي. نبقى عطاشى إليها مهما كانت حالتها الصحية. حضورها وحده يغنينا عاطفةً وبراءةً وفداء. هي وحدها التي تهب ذاتها كاملة، بلا حساب.»

 

في عيد الميلاد، جمعت شقيقتي العائلة، وقد مضت سنتان على وفاة والدتي. اجتمعنا، لكن فرحتنا لم تكتمل بغيابها. كان حضورها طاغيًا رغم الغياب، كأنها معنا في كل زاوية من البيت، في كل طبق، وفي كل ضحكةٍ. لقاؤنا بدا ناقصًا، مختلفًا، لا يشبه ما عرفناه في حياتها، فالأم حين تكون، تصنع الفرح دون جهد، وحين تغيب، ينكشف هشاشته.

 

الأم تجمع العائلة، تمنح اللقاء معناه وتحفظ التماسك دون أن تُعلن ذلك. وبعد رحيلها، نحاول ونجتهد ونتقارب، لكن أحدًا لا يستطيع أن يحلّ محلّها. وتبقى الأم بعد موتها ذاكرةً حيّة، دفئًا مقيمًا، جرحًا لا يندمل، وينبوع حنينٍ لا ينضب.
هي الدنيا قبل أن نعرف الدنيا، 
وهي العيد حتى بعد أن يغيب العيد

إن غياب الام يخلق فراغًا أليمًا مدى الحياة . نشتاق إليها في المناسبات، وفي الأيام العادية أكثر، حين نحتاج إلى كلمة بسيطة، أو حضن صامت، أو دعاء صادق. ومع الوقت، نتعلّم أن نعيش بهذا الغياب، لا لأنّه سهل، بل لأنّها علّمتنا القوّة دون أن تقصد، والصبر دون أن تعلنه. تبقى الأمّ فينا بما زرعته، وبما تركته من أثر لا يزول.
تحت جناحيها جمعتنا في حياتها، وتظلّ تجمعنا في غيابها، فالمحبّة لا تنتهي، والحضور لا يرحل، وإن غاب الجسد، ويبقى ذكرها مؤبدًا. 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق