امتحان العدالة قبل الطلاب - تواصل نيوز

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
امتحان العدالة قبل الطلاب - تواصل نيوز, اليوم الثلاثاء 25 نوفمبر 2025 10:52 صباحاً

المحامي ربيع حنا طنوس

 

 

في زمنٍ تُختبر فيه الثوابت كما تُختبر المعادن في النار، وجدت كلية الحقوق نفسها أمام إمتحان لم يُعدّ للطلاب، بل للعدالة ذاتها. فقبل أن يُمسك أحد بعد ورقة الاسئلة، كانت العدالة هي التي وضعت على مقعد الاختبار، تُسائل صورتها وصدقيتها في بلدٍ انهكته الهزّات.
وفي الممرات التي حملت لعقودٍ صمت الكتب ونبض المجتهدين، تسلّل شرخٌ ضغيرٌ لا يلبث أن يتّسع، ليبلغ مسامع الناس كسؤال موجع: كيف يتعثر الحق في بيته؟ وكيف تترنح العدالة في المكان الذي شيّد ليكون حصنها الأخير؟

image20251020T101451.929_101506_large_10

فالجامعة اللبنانية لم تكن يوماً مجرد مؤسسة تمنح شهادات، بل كانت فضاءً وطنياً يصنع مسار الصعود الاجتماعي، ويجمع أبناء الطبقات والأطراف في مساحةٍ واحدة لا يميزها سوى الجهد. ومن بين أجنحتها، وقفت كلية الحقوق بصفتها الواجهة الأكثر التصاقاً بفكرة الدولة: منها خرج القضاة والمحامون والمشرّعون وحمات الحريات، ومنها تسرّبت إلى الوعي العام صورة القانون كقيمة قبل ان يكون مهنة. كانت الكلية مصنعاً للوعي المدني، ومختبراً للعقل القانوني، وبيتاً يؤمه طلاب إعتادوا أن يرتبوا أحلاهم على رفوفه.
غير أن هذا الصرح العريق بات محاطاً بما يربك صورته، فالقضية ليست خللاً ادارياً ولا خطأ عابراً، بل مساساً بجوهر الدور الذي جعل الكلية مرجعاً وهيبةً. وما جرى ليس حدثاً معزولاً، بل علامةٌ على الأزمة الأوسع التي تحاصر الجامعة اللبنانية: نقص التمويل هشاشة الإدارة، واستنزاف الأساتذة، وتراجع ما كان يمثل ضمانةً أكاديمية واخلاقية. وهكذا يتقدّم سؤال بالغ الحساسية: كيف لصرحٍ حمل عبء الارتقاء الوطني ان يتحمّل اليوم أثقال العجز العام؟
مع انكشاف الفضيحة، وجدت الكلية نفسها أمام اختبار أقسى من أي إمتحان تنظمه. إختبارٌ لقدرتها على المواجهة وعلى كشف الخلل بلا التباس وعلى اعادة الاعتبار لرسالتها في زمن تراجع فيه كل ما كان ثابتاً.
فهل تستطيع ان تقول بوضوح انها لا تزال تدّرس العدالة، لا كمنهجٍ جامعي بل كثقافة وسلوك؟ وهل تملك ما يكفي من الإرادة لتُعيد إلى ميزانها ما انحرف؟
تتفرّع من هذا المشهد أربع إشكاليات أساسية: الأولى تتعلق بفعالية آليات الرقابة داخل المؤسسة ومدى قدرتها على منع أي تلاعب أو استغلال. الثانية تطاول العلاقة بين الجامعة والدولة، وما إذا كان غياب الدعم والاستقلالية يجعل من الجامعة عاجزة عن حماية رسالتها. والثالثة تتصل بثقة الناس: فكيف تُرمّم صورة صرحٍ تعليمي إذا أُصيب في جوهر صدقيته؟ أما الرابعة فتمس مستقبل الطلاب: كيف يُبنى جيلٌ قانوني جديد إذا اهتزت الارض التي يفترض ان تمنحه أمان المعرفة ونزاهة التقييم؟
وعليه، يقف هذا الصرح العريق اليوم عند تخوم لحظةٍ فارقة لا يكفي فيها الاعتذار ولا تجدي فيها التبريرات. فما هزّ كلية الحقوق لم يهزّ صفوفها فحسب، بل مسّ جوهر رسالتها وأصاب ثقة مجتمع رأى فيها يوماً باباً للعدالة حين ضاقت الأبواب. ومع ذلك فإن المؤسسات العريقة لا تُقاس بما يصيبها، بل بما تقوى على إصلاحه. ولذا فإن التحدي الحقيقي ليس في ما كشف، بل في ما سيُبنى فوق الكشف: إرادة للمحاسبة وجرأة في الإصلاح، وعودةٌ صادقة إلى قيمٍ شكلت معنى وجود الجامعة اللبنانية منذ نشأتها.
فالعدالة التي وُضعت على مقعد الامتحان ليست غريبة عن هذه المؤسسة، هي إبنتها الأولى وتاجها الأثمن. وما ينتظره الناس اليوم ليس بياناً او وعداً، بل فعلاً يعيد للكلية صورتها وللطلاب يقينهم أن الحقّ مهما تعثر، لا يسقط في بيته. وهكذا وحده يمكن لهذا الامتحان أن يتحول من ازمةٍ جارحة إلى فرصةٍ نادرة: فرصة لولادة جامعة اكثر صلابة، وكلية أكثر شجاعة، وعدالة تستعيد مكانها حيث ينبغي لها أن تكون… فوق الجميع ولأجل الجميع.