الحبر الأعظم في بيروت: لغةٌ جديدة للوحدة واستنهاضٌ لروح لبنان - تواصل نيوز

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الحبر الأعظم في بيروت: لغةٌ جديدة للوحدة واستنهاضٌ لروح لبنان - تواصل نيوز, اليوم الاثنين 1 ديسمبر 2025 11:03 صباحاً

وديع الخازن، وزير سابق وعميد المجلس العام الماروني

زيارة الحبر الأعظم البابا لاوون الرابع عشر للبنان ليست محطة بروتوكولية عابرة، ولا مُجرّد حدث ديني اعتيادي، بل إنّها، بكل ما تحمله من رمزية وتوقيت ودلالات، زيارة تاريخية ذات أبعاد روحية وسياسية وحضارية وديبلوماسية بالغة العمق.

 

فلبنان، هذا الوطن الصغير بحجمه والكبير بدوره ورسالته، ليس بلداً عادياً في جغرافيا الشرق الأوسط. إنّه مساحة نادرة للتعددية والحرية ولتلاقي الأديان والثقافات، ويستحق أن يستقبل زعيما روحيا عالميا بحجم البابا بكل تقدير وإجلال.
تُمثل هذه الزيارة رسالة رجاء عميقة يحتاج إليها اللبنانيون اليوم أكثر من أي وقت. فلبنان يعيش منذ سنوات أزمات أمنية واقتصادية واجتماعية وسياسية خانقة، لكنه رغم ذلك لا يزال أرض الجمال الروحي والإنساني. والبابا لاوون الذي عرفته منذ كان كاردينالاً، يدرك تماماً حجم التحديات التي يواجهها اللبنانيون، وقد خبرتُه رجل مبادئ ومبادرة، محباً للسلام، واسع المعرفة بخصوصية الصيغة اللبنانية وتعقيدات المشهد الداخلي. كان دائماً يرى في لبنان ركناً أساسياً من رسالته العالمية، ويعتبره نموذجاً نادراً للعيش المشترك يستحق الدعم والحماية.

 

روحياً، تمثل الزيارة إطلالة أبوية من قائد كنسي يعرف أن اللبنانيين في حاجة إلى من يسمعهم ويشعر بآلامهم. فالبابا لا يأتي فقط لإلقاء كلمات رسمية أو للقيام بجولات تشريفية، بل ليلتقي الناس، ليدخل إلى نبضهم الحقيقي، وليمنحهم إحساساً بأنّ العالم الروحي الواسع لا يزال يرى في لبنان قيمة ومعنى ورسالة. في لحظة يكثر فيها اليأس، يأتي البابا ليذكّر اللبنانيين بأن جذورهم الروحية عميقة، وأن هويتهم الإنسانية أقوى من كل انهيار وآلام.

 

سياسياً وديبلوماسياً، تحمل الزيارة رسائل بالغة الأهمية للداخل والخارج.

 

فالفاتيكان، رغم أنه ليس قوة سياسية تقليدية، يمثل سلطة أخلاقية عالمية لا تُقارن. حضوره في بيروت في هذا الظرف الدقيق هو دعوة صريحة لكل الأطراف اللبنانية كي تعود إلى لغة الحوار، بعيداً من الحسابات الضيقة والانقسامات العقيمة. إن وجود البابا بين اللبنانيين هو في ذاته موقف سياسي أخلاقي يدعو إلى الوحدة وإلى حماية صيغة العيش المشترك التي يقوم عليها لبنان. رسائل الحبر الأعظم لها وقع يتخطى البيانات الرسمية لأنها تمسّ الضمير الوطني وتستنهض الإرادة الجماعية.

 

أما عربياً وإقليمياً، فالزيارة تعيد تثبيت مكانة لبنان منارة ثقافية وروحية في الشرق الأوسط، وبلدا يمثل نموذجاً حقيقياً للعيش المشترك والحوار بين الأديان. يدرك الفاتيكان أن غياب لبنان أو انهياره سيكون خسارة فادحة للمنطقة برمّتها وللمجتمع الدولي أيضاً، إذ يشكل لبنان قيمة حضارية لا يمكن تعويضها. ومن خلال هذه الزيارة، يذكّر البابا العالم بأن لبنان ليس ساحة صراع، بل مساحة تلاقٍ، وبأن حماية تعدديته ضرورة إنسانية وأخلاقية.

 

على المستوى المعنوي، لا يمكن التقليل من أثر هذا الحدث. اللبنانيون اليوم في حاجة إلى نفَس جديد، إلى صوت عالمي يقول لهم إنهم ليسوا وحدهم، وإن العالم يقف إلى جانبهم. والبابا لاوون، بشخصيته الإنسانية المتواضعة، قادر على أن يكون هذا الصوت. فهو لا يكتفي بالكلام، بل يترك أثراً حقيقياً في كل مكان يزوره، أثراً يعيد لكل فرد شعوراً بالكرامة والانتماء والأمل.

 

ومن وجهة نظر شخصية، أرى في هذه الزيارة جرعة حياة ضرورية للبنان. إنها دعوة لكل اللبنانيين ليستعيدوا ثقتهم بتاريخهم العريق الممتد لقرون، وليتذكروا أن هذا الوطن لم يصمد إلا لأنه كان دائماً مساحة لقاء لا مساحة انقسام. البابا لاوون يأتي ليعيد تسليط الضوء على جوهر الهوية اللبنانية: التنوع، الحرية، العمق الروحي، والقدرة على تحويل الأزمات إلى فرص للنهوض.

 

في الختام، ليست زيارة البابا للبنان مجرد حدث رمزي أو مناسبة ظرفية، بل هي تأكيد أنّ لبنان، رغم جراحه، لا يزال بلداً يستحق الحياة. إنّها زيارة تُعيد إلى اللبنانيين ثقتهم بأنفسهم، وتذكّر العالم بأن لبنان سيظل نموذجاً فريداً للتنوع والإنسانية.

 

لبنان يستقبل البابا اليوم كمن يستقبل الضوء بعد طول عتمة، على أمل أن تكون هذه الزيارة بداية لمسار جديد يعيد الروح إلى وطن تعب كثيراً، لكنه لم يفقد يوماً قدرته على النهوض.