الكرسي الرسولي وقضايا الشرق الأوسط: ديبلوماسية القوة الناعمة والعدالة الإنسانية - تواصل نيوز

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الكرسي الرسولي وقضايا الشرق الأوسط: ديبلوماسية القوة الناعمة والعدالة الإنسانية - تواصل نيوز, اليوم الجمعة 28 نوفمبر 2025 07:03 صباحاً

 

يرسّخ الكرسي الرسولي، منذ القرن السادس عشر، حضوره كفاعل روحي ودبلوماسي ذي طابع فريد. ويتمتع الفاتيكان بشخصية قانونية دولية مميزة، تمنحه مكانة "موضوع دائم للقانون الدولي" منذ عام 1815.

 

ورغم افتقاره إلى القوة الصلبة العسكرية أو الاقتصادية، فإنه يمتلك شرعية أخلاقية وقدرة تأثير تضاهي الدول الكبرى، ما يجعله لاعباً ضرورياً في معادلات الشرق الأوسط. لا تنطلق دبلوماسية الفاتيكان من حسابات الربح والخسارة، لأن أهدافها غير توسعية أو اقتصادية، بل تستند إلى حماية كرامة الشخص البشري، والدفاع عن حريات الاعتقاد، وتعزيز التضامن والحوار بين الثقافات.

 

وكشفت الديبلوماسية الفاتيكانية، الممتدة عبر قرنين، عن تحوّل مسارها من حماية المصالح الإكليريكية الضيّقة إلى تبنّي سياسة أكثر انفتاحاً ترتكز على أجندة حقوق الإنسان، وحماية التعدّدية، والدفاع عن الكرامة الإنسانية، وتعزيز الحوار بين الأديان.

 

التحوّل التاريخي في سياسات الشرق الأوسط

شهد موقف الكرسي الرسولي تجاه قضايا الشرق الأوسط تحوّلاً جذرياً عبر الزمن:

 

  1. المرحلة الأولى (ما قبل المجمع الفاتيكاني الثاني): كان موقف الفاتيكان حادّاً تجاه المشروع الصهيوني في بداياته، إذ عارض البابا بنديكتوس الخامس عشر وعد بلفور، ثم عارض قيام دولة إسرائيل عام 1948 انطلاقاً من مخاوف على استمرارية الوجود المسيحي العربي.

     

  2. نقطة التحوّل (المجمع الفاتيكاني الثاني): أحدث المجمع الفاتيكاني الثاني (1962–1965) تحولاً جوهرياً؛ إذ لم تعد القدس تُعامَل كمسألة كاثوليكية بحتة، بل كمدينة يجب أن تضمن حقوقاً مدنية ودينية متساوية لليهود والمسيحيين والمسلمين. ومن هنا بدأ رسم دبلوماسية جديدة تقوم على الانفتاح على الآخر، والبحث عن "سلام مع عدالة".

     

  3. العلاقات الثنائية وقرارات الأمم المتحدة: شهد عهد البابا يوحنا بولس الثاني توسعاً لافتاً في الحركة الدبلوماسية. فكسر الفاتيكان بين 1990 و2003 محظور إقامة علاقات مع دول ذات حدود غير محددة. ووقّع اتفاقاً تاريخياً مع إسرائيل عام 1993، وآخر شاملاً مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 2000، دعماً لحلّ يستند إلى قرارات الأمم المتحدة.

     

  4. معارضة الحروب: عارض الفاتيكان علناً الحربين على العراق، رافضاً منطق "الملاذ الأخير" العسكري.

 

حاضرة الفاتيكان تكتظ بالمؤمنين. (أ ف ب)

حاضرة الفاتيكان تكتظ بالمؤمنين. (أ ف ب)

 

الأساس الفلسفي والقيمي للدبلوماسية البابوية

تقوم المقاربة الدبلوماسية الفاتيكانية على "توازن القيم" بدلاً من توازن القوى، وتتجذّر في تصوّر فلسفي ولاهوتي يجمع بين العقلانية بحسب توما الإكويني التي تقدّم مفهوم العدالة والحق الطبيعي كأساس للسلام، ولاهوت الشعب الذي تبنّاه البابا فرنسيس ويشدّد على البعد الإنساني والذاكرة والهوية الجماعية في بناء السلم الأهلي.

 

ويفسّر هذا الأساس مواقف الفاتيكان الثابتة من القضايا الإقليمية:

  1. كرامة الإنسان: يقوم الموقف الفاتيكاني على مبدأ كرامة الشخص البشري ومبدأ التضامن.

     

  2. السلام والعدالة: يشدّد الفاتيكان على أن السلام ليس مجرد غياب للحرب، بل ثمرة للعدالة وإزالة الأسباب البنيوية للعنف.

     

  3. الردع النووي: يرفض الفاتيكان منطق الردع النووي، واصفاً إياه بأنه "وهم يقوم على التهديد المتبادل بالدمار"، مؤكداً أن السلام لا يمكن أن يُبنى على الخوف.

     

  4. القدس: يشير الكرسي الرسولي إلى ضرورة اعتماد "وضع دولي مكفول للقدس"، وأن تكون رمزاً مشتركاً للشعبين اللذين يطالبان بها.

 

دور الوساطة والقوّة الناعمة المؤسسية

يعتمد الفاتيكان على قوّة ناعمة مدعومة بشبكة مؤسساتية واسعة عابرة للحدود، ما يمنحه قدرة استثنائية على الوساطة:

 

  1. الشبكة العالمية: ترتكز دبلوماسيته على شبكة تضم أكثر من 120 ألف مدرسة وجامعة وآلاف المستشفيات والمؤسسات الاجتماعية. تشكّل هذه البنية التحتية ركيزة للقوة الناعمة، وتسمح للكرسي الرسولي بأن يكون "وسيط ثقة" قبل أن يكون وسيطاً سياسياً.

     

  2. الحياد والثقة: يستند دور الوساطة إلى صورة الفاتيكان كجهة محايدة لا تسعى إلى الهيمنة، وهو ما أكسبه ثقة دول المنطقة. وقد طلبت دول مثل العراق تدخله عام 1993 لوقف العمليات العسكرية الأميركية، كما أبدت إيران استعدادها لقبول وساطته في قضايا حساسة كالملف النووي.

 

البابا فرنسيس والشيخ أحمد الطيب في الإمارات. (أ ف ب)

البابا فرنسيس والشيخ أحمد الطيب في الإمارات. (أ ف ب)

 

الحوار بين الأديان ومشروع الأخوّة الإنسانية

يعتبر الفاتيكان الحوار الإسلامي–المسيحي "ضرورة حيوية يعتمد عليها المستقبل بشكل كبير"، وهو خيار وجودي وليس ترفاً دبلوماسياً:

 

  1. منصات الحوار: أنشأ الفاتيكان خمس منصات دائمة للتواصل مع مؤسسات إسلامية.

     

  2. وثيقة الأخوّة الإنسانية (2019): تُعد هذه الوثيقة، التي وقّعها البابا فرنسيس وشيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب في أبو ظبي، مشروعاً سياسياً–أخلاقياً لإعادة بناء العلاقة بين الأديان على قاعدة المواطنة المتساوية ورفض استخدام الدين للعنف أو الإقصاء. وأدخلت الوثيقة مفهوم "الإخوة البشرية" إلى الخطاب الدولي كإطار بديل لصدام الحضارات.

 

المصالحة وتطهير الذاكرة

اعتمدت الدبلوماسية البابوية، خصوصاً في عهد يوحنا بولس الثاني وفرنسيس، مبدأ المصالحة مع الماضي لتعزيز مصداقيتها الأخلاقية والروحية.

 

  1. اعتذارات البابا يوحنا بولس الثاني: قبيل زيارته التاريخية للأراضي المقدسة عام 2000، قدّم البابا سلسلة اعتذارات رسمية عن أخطاء الكنيسة التاريخية، خصوصاً صمتها أو تجاهلها للمحرقة النازية. هدف هذا المسار إلى تعزيز مصداقية الكنيسة الأخلاقية وتمهيد الطريق للحوار بين المسيحيين واليهود والمسلمين.

     

  2. تطهير الذاكرة: أكّد البابا فرنسيس هذا الخيار من خلال لقاءاته المتكرّرة مع الناجين اليهود من المحرقة، مشدداً على ضرورة "تطهير الذاكرة" لمنع تكرار آليات الكراهية في الحاضر.

 

البابا الراحل فرنسيس. (رويترز)

البابا الراحل فرنسيس. (رويترز)

 

التحديات الجيوسياسية ومستقبل الوجود المسيحي

يواجه الفاتيكان تحدّياً وجودياً يتمثل في تراجع الوجود المسيحي في الشرق الأوسط نتيجة الهجرة والاضطهاد والحروب وصعود التطرّف منذ السبعينيات.

 

  1. المسيحيون كمواطنين أصليين: ترى الكنيسة أن المسيحيين "مواطنون أصليون" وليسوا ضيوفاً، وأن غيابهم يفرغ الشرق من تعدديته. ولذلك تدفع نحو "العلمانية الإيجابية" التي تحفظ المساواة وترفض "عقلية الفيتو".

     

  2. لبنان كنموذج: يعتبر الفاتيكان لبنان "ليس دولة فحسب، بل رسالة حريّة". إن إنقاذه كموطن للتعددية يشكل ضمانة لبقاء المسيحية في المنطقة. ويدعو الفاتيكان إلى حياد لبنان وسيادته وحريته، وتجديد ميثاق العيش المشترك وترسيخ الديمقراطية.

     

  3. صراع المصالح الجيوسياسية: يصطدم الخطاب الأخلاقي للفاتيكان بمصالح اقتصادية وعسكرية صلبة لقوى إقليمية ودولية (إيران، تركيا، السعودية، إسرائيل، الولايات المتحدة)، ما يقلّص هامش المناورة للكنيسة.

 

الخلاصة

نجح الكرسي الرسولي في التحوّل من قوّة روحية صامتة إلى لاعب دبلوماسي محوري في الشرق الأوسط. فبين الروح والسياسة، صنع الفاتيكان لنفسه مقعداً ثابتاً حول طاولة المنطقة.

 

وتكمن قوّة ديبلوماسيته في قدرته على التواصل مع أطراف متصارعة لا تقيم في ما بينها أي علاقات، واعتماده مشروعاً بديلاً يقوم على العدالة والمصالحة والكرامة الإنسانية. لقد أثبتت سلطة الفاتيكان الأخلاقية قدرتها على اختراق الجبهات المغلقة، لتكون صوت الضمير في عالم مشبع بالعنف. 

 

يمكن النظر إلى ديبلوماسية الكرسي الرسولي في الشرق الأوسط كجسر عبور في منطقة مزدحمة بحركة المرور العسكري والسياسي؛ فهي لا تمتلك قوّة المركبات الثقيلة، لكنها الوسيلة الوحيدة التي تتيح العبور بأمان والتقاء الخصوم بعيداً عن صخب الصراع.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق