تقع جزيرة مورانو في قلب بحيرة البندقية، وتُعد محطة مثالية للانطلاق نحو مجموعة من الجزر والمناطق المجاورة التي تمثل جوهر الجمال الفينيسي والتراث الإيطالي. فبعد اكتشاف ورش الزجاج الشهيرة في مورانو، يمكن للزائر مواصلة رحلته في استكشاف المناطق المحيطة التي تحمل كل منها طابعًا مميزًا يجمع بين التاريخ والفن والحياة المحلية الهادئة. هذه الجولة لا تقتصر على مشاهدة المعالم، بل هي تجربة عميقة تعيد إحياء روح مدينة البندقية القديمة، وتكشف عن وجوهها المتعددة بعيدًا عن الزحام.

زيارة عجائب تورشيلو القديمة

تُعد جزيرة تورشيلو (Torcello) واحدة من أقدم المناطق المأهولة في بحيرة البندقية، وتتميز بجو من الهدوء والرهبة التاريخية. على الرغم من أن عدد سكانها اليوم لا يتجاوز العشرات، إلا أنها كانت في الماضي مركزًا مزدهرًا للحياة والثقافة قبل أن تتحول البندقية إلى القوة التجارية المعروفة. ما يجعل تورشيلو فريدة هو شعور الزمن المتوقف فيها، حيث تمتزج الطبيعة الخضراء مع بقايا العصور الوسطى في مشهد ساحر.
من أبرز معالمها كاتدرائية سانتا ماريا أسونتا (Santa Maria Assunta)، التي تعود إلى القرن السابع الميلادي وتضم فسيفساء بيزنطية مذهلة تُعد من أروع الأعمال الفنية في المنطقة. يمكن أيضًا زيارة كنيسة سانتا فوسكا (Santa Fosca) ذات التصميم الخماسي المميز، والتجول في الممرات الحجرية الضيقة التي تحيط بها قنوات صغيرة وحقول القصب. كما يُعتبر جسر الشيطان (Ponte del Diavolo) من المعالم الغامضة التي تثير فضول الزوار، إذ يُقال إنه سُمّي بهذا الاسم بسبب الأساطير القديمة التي ارتبطت ببنائه. زيارة تورشيلو تمنح الزائر لمحة عن البندقية الأولى، حيث بدأت الحكاية قبل أكثر من ألف عام.

التجول عبر كاناريجيو في البندقية

من مورانو يمكن الوصول بسهولة إلى حي كاناريجيو (Cannaregio)، أحد أقدم وأصيلة أحياء مدينة البندقية. على عكس المناطق السياحية المزدحمة مثل سان ماركو وريالتو، يحتفظ كاناريجيو بجوه المحلي الهادئ الذي يعكس الحياة اليومية لأهل المدينة بعيدًا عن الزحام. التجول عبر قنوات الحي الضيقة يمنح إحساسًا بالعودة إلى زمن البندقية القديمة، حيث تصطف المنازل التقليدية والمحال الصغيرة والمقاهي الشعبية على ضفاف المياه.
في قلب الحي يقع الحي اليهودي القديم (Ghetto Ebraico)، الذي يُعد أول حي يهودي مغلق في أوروبا، ويحتوي اليوم على متاحف صغيرة ومعابد يهودية تاريخية تحكي قصة التسامح والتنوع الثقافي في البندقية. يمكن للزائر أيضًا الاستمتاع بجولة على متن الجندول عبر القنوات الجانبية أو التوقف لتناول وجبة خفيفة في أحد مطاعم الحي المحلية التي تقدم أطباقًا فينيسية تقليدية. زيارة كاناريجيو تكشف جانبًا حقيقيًا من البندقية لم تطله الحداثة، وتتيح تجربة ثقافية أصيلة تجمع بين التاريخ والحياة اليومية.

استكشاف سحر بورانو وبادوفا الأكاديمي

لا تكتمل الرحلة حول مورانو دون زيارة بورانو (Burano)، الجزيرة الأشهر بألوانها الزاهية التي تجعلها واحدة من أكثر الأماكن تصويرًا في العالم. تمتاز بورانو بمنازلها المطلية بألوان جريئة ومبهجة تعكس روح سكانها الصيادين، الذين اعتادوا تلوين بيوتهم لتمييزها وسط الضباب الكثيف. إلى جانب جمالها البصري، تُعرف بورانو أيضًا بفن الدانتيل اليدوي (Burano Lace) الذي تتوارثه النساء منذ قرون، ويمكن للزوار مشاهدة الحرفيات وهن يصنعن هذه القطع الفنية الدقيقة داخل متاحف ومحال صغيرة. كما أن التجول في أزقة بورانو الضيقة على وقع أصوات القوارب والمارة يمنح شعورًا بالسكينة والانغماس في بساطة الحياة الإيطالية.
وبعيدًا قليلًا عن البحيرة، تقع مدينة بادوفا (Padova)، وهي واحدة من أقدم المدن الجامعية في أوروبا وتشتهر بأجوائها الأكاديمية الراقية وتراثها الثقافي الغني. يمكن للزائر أن يتجول في جامعة بادوفا التي تأسست عام 1222 والتي درس فيها غاليليو جاليلي، أو يزور كنيسة سانت أنطونيو (Basilica di Sant’Antonio) ذات الطراز القوطي المهيب. كما تضم المدينة ساحات فسيحة مثل ساحة براتو ديلا فالي (Prato della Valle)، وهي من أكبر الساحات في أوروبا، وتحيط بها تماثيل تاريخية وحدائق غناء تضيف إليها لمسة من الجمال الإيطالي الخالص.

إن استكشاف المناطق المحيطة بمورانو يمنح المسافر فرصة فريدة للتعرف على وجه آخر من البندقية الكبرى، وجه أكثر هدوءًا وعمقًا وإنسانية. من تورشيلو الهادئة إلى بورانو المبهجة، ومن كاناريجيو الأصيلة إلى بادوفا المثقفة، تشكل هذه الرحلات القصيرة فسيفساء من التجارب المتنوعة التي تثري أي زيارة إلى شمال إيطاليا، وتجعل من مورانو نقطة انطلاق مثالية لاكتشاف الجمال الخفي خلف البحيرات الهادئة.