الأنثروبولوجيا اللبنانية في كتاب "روح لبنان" لدارين جوزيف سمعان - تواصل نيوز

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الأنثروبولوجيا اللبنانية في كتاب "روح لبنان" لدارين جوزيف سمعان - تواصل نيوز, اليوم الثلاثاء 14 أكتوبر 2025 09:00 مساءً

تواصل نيوز - شملت الواقعيّة في كتاب "روح لبنان" لدارين جوزيف سمعان، الرسومات والنصوص المرافقة لها، فأضحى ذروة ثقافيّة جماليّة، مرتكزة حول الريف اللّبنانيّ والمهن الحرّة.

اتّبعت سمعان منهجاً فريداً، من حيث نشدت التجانس البصري الخالص، فكان عملها نتيجة امتزاج أو اقتران بين الأفكار والأحاسيس، فكلّ لوحة داخل الكتاب ملأت مجال النظر، وجاء الانطباع الأوّلي لمشاعر الناظر إليها، مطابقاً للشرح الذي دوّنته باللغة الإنكليزيّة بجانبها.

نقلت الفنّانة الحياة اليوميّة من الريف والمدينة إلى الصفحات، بصدق وأمانة ودقّة. فمشاهدتك للرسومات وتصفّحك النصوص، يغنيانك عن جولة سياحيّة في جميع أرجاء لبنان الجميل، شمالاً وجنوباً وبقاعاً وسهلاً وجبلاً.

يندرج هذا الكتاب ضمن العمل الفنيّ التراثيّ التوثيقيّ، وهو أقرب إلى الأنثروبولوجيا المرسومة، فقد أعتمدت سمعان الفن الواقعي لتوثيق الحياة اليوميّة والعادات الجميلة في لبنان، وقد جاءت جميع النصوص التي تشرح مكان ومناسبة اللوحات غاية في الجمال تفسيراً وتحليلاً من منظور تراثيٍّ أو اجتماعيٍّ، كونها وصفت المهن الحرّة، وحياة الريف البسيطة.

 

 

اتّخذت دارين سمعان من الإنسان وعمله أو صنعته وحدة أساسيّة للتعبير عن المشاعر والأفكار، لذلك لم يتضاءل شأن الطبيعة في رسوماتها إلى جانب رسم العامل أو المزارع أو المهنيّ. ولم ترسم الإنسان بوصفه القوّة التي تسيطر على الطبيعة، وإن ظلّ هو مركز اللوحات داخل الكتاب، ونتاجه محور التفكير ضمن النصوص. فقد أتت صورته ملائمة لظروف الحياة التي يعيشها، لذلك وصفت الفنّانة بفنّها هذا صداقة الطبيعة مع الأنس.

لا يمكننا وصف جميع لوحات الكتاب التي بلغ عددها أكثر من مئة لوحة تراثيّة اجتماعية، لكن من الواجب تعداد بعضها، عسانا نتمكّن من الإضاءة على هذا النوع من الأدب المرسوم والمكتوب الذي يحيي الموروث الثقافي وينقله بجماله إلى هذا الزمن، ويجعل التراث أكثر قرباً من الجيل الجديد.

رسمت سمعان فلّاحاً في أعالي جبال المنية- الضنيّة، مع بقرته التي ترعى في الحقول، وقد بان السرور على محيّاه، فهل أنّ هذا الفرح ترجمة للوفاء بين الإنسان والحيوان؟ وفي مكان آخر من لبنان الجميل الذي هو سهل البقاع الخصيب والوسيع، أضافت لوحة جمع محصول البندورة عمقاً بصريّاً، يعيدنا إلى حكايات نابضة بالحياة، كمناسبات الفرح التي تُختتم حول مائدة كبيرة يتصدّرها جاط تبولة من مكوّناتها البندورة البعليّة اللذيذة الطعم. ووضعتنا الفنّانة والكاتبة في زيارة محبّبة إلى الملّاحات في بلدة أنفة، تلك البلدة الكورانيّة البحريّة التي تنتج أجود أنواع الملح، فهناك على تلك الصفحة، بان رجل مسنّ، عند انبلاج الفجر، يجرف الملح من الملّاحات، ويرش بعضاً منه على نصوص الكتاب، فيصبح طعمها لذيذاً.

 

ال2cb21777bb.jpgالكاتبة دارين سمعان

أمّا في مدينة صور، فقد دمجت دارين سمعان تاريخ المدينة العريق برسم الصيّادين الذين ضربوا موعداً مع هجعة الليل الأخيرة، ليبحروا قبل الفجر من أجل لقمة العيش. وهنا عكس الدمج بين النص التاريخيّ والرسم التراثي قدرة المؤلّفة على التعبير الذي جمع بين جماليّة اللغة وسحر اللوحة. وفي بلدة دوما الحائزة على جائزة أجمل بلدة، جعلتنا دارين نتذوّق مربى التين بعيوننا، وقد بانت قدرتها على تكليف أي حاسة من الحواس الخمس بمهمة ليست لها، فطابخ التين في اللوحة مبتهج برائحة التين المطبوخ الذكيّة التي فاحت في أرجاء الغرفة أثناء مطالعتنا للكتاب، فالأكيد أنّه أضاف بعض أوراق نبتة العطر عليه قبل الانتهاء من طبخه.

وفي الجنوب الحبيب، أطلّت امرأة من لوحة جميلة، سبقت ابتسامتها ابتسامة المنجل لسنابل القمح التي ظنّت أنّ المنجل يودّ عناقها، وهي غافلة عن قطع أعناقها. وعندما تشاهدون لوحة مخبز "البريوش" في مدينة البترون، وقد بذل الخبّاز  جهده في عمله لينتج أجود أنواع "البريوش" السادة أو المحشو بالشوكولاتا الشهيّة، فلا يمكنكم الّا أن تزوروا تلك المدينة لتذوّق هذا المنتج اللذيذ، والوقوف على إخلاص الخبّاز لمهنته والظاهر في اللّوحة. 

رسمت دارين لوحة صناعة القربان في عاصمة الكثلكة في الشرق مدينة زحلة البقاعيّة. ولم تدمج الألوان مع تفاصيل اللوحة، بل عجنتها مع العجين الذي عجنه الخبّاز الحريص، لتصبح هذه الألوان في صلب الإيمان بعد تقديس القربان، هنا تحضرنا رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" للكاتب محمد النعاس، في تفاصيل صناعة المخبوزات المتنوّعة، والحائزة "جائزة البوكر العربيّة" لعام 2022. أمّا في أحد شوارع العاصمة بيروت، فقد بانت لوحة محل أقمشة برفوفه التي تصطف عليها لفّات القماش بألوانها الزاهية. وفي شارع آخر من العاصمة يصدر طنين ماكنة خياطة، يخيط عليها خيّاط ستائر للشرفات، ونظره مثبّت على مجال الدرز، وقد جعلت دارين اللوحة سجنه الدائم.

جبلت دارين سمعان ألوان فرشاتها بالشحم والزيت، فكانت لوحة الميكانيكيّ التقليديّ في لبنان. ويصبح لون الشحم الأسود بنصاعة الثلج، عندما تتصلّح السيارة ويزول همّ السائق الفقير. وللسلامة العامة ضرورة ملحّة، حتى في الفنّ، فها هنا داخل صفحات الكتاب رسمٌ لرجل قوي من الدفاع المدنيّ يقف متأهباً لأي حادث طارئ. ولم تغفل دارين عن رسم صانعي المأكولات اللبنانيّة التقليدية، التي تباع في محلات في مختلف المدن اللبنانيّة: فلافل فريحة، والسوسي في بيروت، والمغربيّة في طرابلس... كما ضمّ الكتاب لوحات لصانعة خبز المرقوق، وكركة العرق...  

رافقتنا دارين بفنّها الراقي وأدبها الريفيّ والتراثيّ، في جولتنا على صفحات الكتاب، كما رافقت سمفونيّة الموسيقي من أوّل سلم نوتاتها حتى الختام، فأي سيمفونيّة تُعزف من دون آلات عزف، إلّا سيمفونيّة الريح والقصب؟ فقد رسمت لوحة رائعة تبيّن فيها دقّة صناعة آلة العود بطريقة يدوية، في أحد محترفات البقاع، وبان الصانع وبيده العود وكأنّه يستمهل "علي" لاستلام عوده إلى ما بعد الانتهاء من صناعته، وقبل أن تغني له سفيرتنا إلى النجوم "عيدا كمان ضلّك دق يا علي وسمعني عودك..."

من خلال لوحات ونصوص دارين سمعان التي كتبتها باللغة الإنكليزيّة، تجسّدت ملامح الحياة الريفيّة والمدنيّة البسيطة، فكان كتابها "روح لبنان" وثيقة أحيت الموروث للأجيال القادمة. وكان الدمج خلاله بين الرسومات والنص الذي تخطّى الترجمة البصريّة للوحات، حواراً إبداعيّاً بين الرسم والمعنى، وبين الفنان الذي يسكن روحها والأديب الذي يستوطن عقلها.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق