نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
شوقي أبي شقرا أو الطفولةُ مصدراً - تواصل نيوز, اليوم الأربعاء 15 أكتوبر 2025 08:29 صباحاً
تواصل نيوز - أحمد بيضون
أظهَرُ (أو أخفى) ما يُتحفك به شعر شوقي أبي شقرا (أو انّ هذا ما يتهيّأ لي) هو إقامتُه البرهانَ، في كلّ عبارةٍ تقريباً، على وحدة المصدر الذي ينبثقُ منه الشعر وتخرج منه الفكاهة. فها هنا مقدرةٌ على إقلاق العلاقة بين مكوّنات العبارة: بين المبتدأ والخبرِ، مثلاً، أو بين الصفة والموصوف أو بين المعطوف عليه والمعطوف، إلخ.، بحيث تحصل البغتة. والبغتةُ هنا لطيفة: لا تصدم بل تحملُ على السؤال: كيف كان ذلك؟… وعلى الاستبشار بجوابٍ يسوّغ ما كان من ظَفَرٍ بابتسامة. وذاك أنّ ابتسامة القارئ (صريحةً كانت أم مهموماً بها) تسبق الجواب المرجوّ، على رغمٍ من أنّ المفترض أن تكون مكافأةً عليه. فمع أنّ اقتران مفردتين في مركّبٍ، عند أبي شقرا، يأتي أبعدَ ما يكون عن المنتظر، إلّا أنّ شعوراً غلّاباً يساورك بأنّ الحال هي فعلاً ما تؤدّيه عبارة الشاعر ولكنّ هذه الموافقة كانت قد فاتت فطنتك. هذا أيضاً ما يستطيعه حسّ الفكاهة: أن يُشعرَك، على غير انتظارٍ منك، بأنّ العبارة الذائعة إنّما تزلق على سطح الأمور وأنّ القولة النافذة إلى اللُباب لها أن تمعنَ في الإغراب فلا يزيدُها هذا الإمعان إلّا صدقاً وكشفاً.
هذا وشاعرُنا، وهو يرتجلُ العلاقةَ تلوَ العلاقة بين مفرداته ويزَيّنُ لنا أنّه لا يرتجلُ شيئاً بل يُحصّل وقائع تشي بعوالم، يبقى شاعر مفرداتٍ يسبق حصادُها (أو يبدو وكأنّه يسبق) همّ إماطة اللثام عنها وقد خالط بعضُها بعضاً في مائة قرانٍ وقران. وهو يقع على مبتغاه من المفردات في ذلك الريف الذي أدركهُ وتمَلّى منه قبل أن يزول أو يوشكَ على الزوال. هذا المصدَرُ الريفيّ لم يفت النقّاد من قرّاء أبي شقرا أن يُنوّهوا به ويُبْرزوه. وهم أبرزوا أيضاً حضورَ الطفولة الغامر في لغة هذا الشاعر وأخيلته. فرض نفسه على انتباه النقّاد أيضاً حضور الكنيسة وأشيائها وكهنتها وطقوسها وما يساوقُها من تُراثٍ مسحور. أخيراً لم يأنف هذا الشاعر – وهو العارفُ اللعوبُ بكنوز العربيّة – من اللفظة العامّيّة "تأتيه عفواً فلا يتركُها" على قولِ قائلٍ في سيرة الجاحظ مع السجع. وهل كان لهذا المستوى اللغويّ أن يغيب (لا بمفرداته وحدَها بل أيضاً بشبح بلاغتِه المخيّم بسلاسةٍ وظرفٍ على المرَكّبات) وهو الحامل المؤتمن لنظام هذا العالم برمّته؟
شوقي أبي شقرا. (منصور الهبر)
وذاك أنّ ما يسوقنا إليه هذا التعداد، عند التأمّل، إنّما هو التسليمُ بأنّنا حيال أركانٍ لعالمٍ واحدٍ أو روافدَ لنهرٍ لغويّ واحد. الريف أو القرية بكنيستها والطفولة بتخاريفها ومسالكها المسحورة وبعضُ المهجور من مفردات التراث العامّيّ وحكمته هي، في نهاية مطافها ، واحدٌ: هي طفولة عالمنا، بما هي – على الخصوص – ما بقي لهذا الشاعر (أو ما بقي فيه) من طفولته، وهو كثيرٌ لا نضوبَ له. على أنّ هذا البقاءَ (وهذا مصدَرُ سحره) لا يسعه أن يكون إلّا بقاءً لما زال: شهادةً لبقائه عالماً لا يني يسكن عالمنا، بعدَ أن زال، محيلاً عالمنا هذا إلى عالَمٍ مسكون. وهي شهادةٌ بوحدة المصدَر الذي يخرج منه، لا الشعرُ والفكاهةُ وحدَهما، بل الطفولة أيضاً: الطفولة التي لا مناص من اعتبارها مصدَراً لنفسها وقد يصحّ اعتبارها مصدراً للشعر وللفكاهة أيضاً. يعود إلينا هذا الزائل – أوّلَ ما يعودُ – مفرداتٍ: مفرداتٍ موسومةً بالخفّة تستمدّها من تسميتِها ما زال ومن أُلفتنا ما تسمّيه من أشباحٍ وأخْيِلة. والخفّةُ، في هذا المعرض، شيءٌ جليلٌ يوشك أن يكون شرطاً للشعر: لهذا الشعرِ، في التقدير الأقلّ. الخفّةُ هي ما يُشعر بأنّ هذا الشعرَ لعبٌ لا ينقضي ولو انّه يستقي مادّته من عالمٍ لبث سديماً وبعض نظامٍ لنفوسنا بعدَ أن هجرَنا أو هجرناه.
وقد يكون علينا أن نغادر شوقي أبي شقرا وشعرَه لنتبيّن كيف أنّ هذا العالم بقي عالمَنا من مائة وجهٍ ووجهٍ وأنّ كثيراً من هذه الوجوه لم يكن – أو لم يبقَ – جميلاً البتّةَ ولا كانت الخفّة – أو بقيَت – صفةً لالتحامنا به. وأمّا شاعرُنا فرأى أن ينحّيَ جانباً ما كان – وبقي – مظلماً ثقيلاً من هذه الطفولة (طفولتنا بما نحن جماعةٌ أو جماعاتٌ) وعكف على المحبّب الخفيف من أشباحها والأخيلة. ولا يُنكَرُ وجودُ شيءٍ من الحنين في هذا الانحياز. ولكنّ الغالب فيه أو المهيمن عليه يبقى اللعب بما هو سبيلٌ إلى الفكاهة، وهذه تضْمِرُ، في كثرةٍ من حالاتِها، مدّ سخريةٍ عارماً: مدّاً يغرق فيه الحنينُ وما يشتقّ منه أو ينتهي إليه. يسخرُ شعرُ أبي شقرا منّا بما نحن مشدودو الوثاق إلى هذه الطفولة لا يغادرنا عالمُها المسحور. وهذه سخريةٌ لا خبثَ فيها ولا ضغينةَ: إذ الشاعر لا ينالُ منّا إلّا من خلال سخريته من نفسه أوّلاً. فإنّما هو بطلُ الحكاية التي يعرضها علينا من مبتدئها إلى منتهاها…
… هذا وقد مضى عهدٌ كنتُ أتردّد فيه على مكاتب "النهار" في الحمرا لأستودع شوقي أشعار شبابي، ينشرها في "الصفحة الثقافيّة". وكنت لا أستبعد، في تلك الأيّام، أن يكون شوقي مُعرِضاً عن إصلاح هندام حاجبيه الأشعثَين من قبيلِ السخرية من صورةٍ للأمير بشير الشهابي معلّقةٍ في قصر بيت الدين كانت تخيفنا في كتاب التاريخ ونحن صغار…
بلتيمور في 15 آب/أغسطس 2025
0 تعليق