نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
في حديث الشعر (13) - تواصل نيوز, اليوم السبت 7 يونيو 2025 10:20 صباحاً
تواصل نيوز - أُواصل حديثي في الشعر، وفي ثنايا ما يصدر عنه تَجَرُّؤًا عليه أَو انتقاصًا منه، حين "يرتكبُه" طارئون عليه، يدَّعون انتسابهم إِليه، مستعيرين تسمياته كي يرفعوا (أَو يتوهمون أَنهم بذلك يرفعون) من قيمة كتاباتهم.
لكنَّ الشعر لا يأبه. يواصل طريقه مستكينًا إِلى شعراء مكرَّسين يرتفعون معه إِلى سُمُوِّه الأقدس.
بهرجة الكلاسيكية الخاطئة
أَبْعَدُ من أَنْ تكونَ قصيدةُ الحب مكتوبةً لامرأَة، وقصائدُ الوطن مكتوبة للشعب، هي مكتوبةٌ لتُرضي الشعر.
في كلِّ شِعْرٍ مكرَّسٍ قصيدةٌ، إِنما ليسَ في كلِّ قصيدةٍ شِعْر.
أَلْفِتُ هنا إِلى الشعر العَموديّ الكلاسيكيّ. غالبًا ما يختبئُ فيه الشاعرُ (بل الناظمُ النظَّامُ الوَزَّانُ، في هذه الحالة) وراءَ التفعيلةِ والبحرِ والوزنِ والرَوِيِّ والقافيةِ وشكلِ القصيدةِ العموديّ التقليديّ (صدْرًا وعَجُزًا) وجَلْجَلَةِ الإِلقاء (حين يقرأُ قصيدتَه جَهْوَرِيًا)، فيما لا يكونُ في القصيدةِ كلِّها بيتٌ واحدٌ أَحيانًا في قلب الشعر: تِقْنِيَةً أَو وَمْضةً شعريةً، بل يكونُ كلُّ ما قاله رَصْفًا لأَبياتٍ ليس فيها سوى نَظْمٍ عَروضيٍّ يَتَواطَأُ مع قارئِه (أَو سامعِه)، ولا يكونُ فيه شيْءٌ من الشعرِ الشعر.
نموذج قصيدة مدوَّرة (فدوى طوقان)
جوهر التجديد من الداخل
ليس ضروريًّا نشْر القصيدة الكلاسيكية بشكلها التقليدي وأَبياتها العمودية. قد يصدر كتابٌ بكل أُصول الشعر: أَوزانًا، وبُحورًا، وتفعيلاتٍ، وتنتثر فيه الأَبياتُ في فانتازِيَا تشكيليةٍ (كقصيدة التفعيلة) لا تُؤْذي المضمون (بل رُبَّما تُبْرِزُهُ أَكثر) وتُمَوسِقُ الشكلَ بما يتناسب ولُهاثَ الكلمات. ذلك أَنَّ للشاعر حُرِّيَّةَ استعمالِ بياضِ الصفحةِ أَمامه، كما يرتَإِي، لأَنَّ المساحةَ البيضاءَ على الورق تحت القلم، كالمساحةِ البيضاءِ على القماشةِ تحت الريشة، كالمساحةِ البيضاءِ على الرخامِ تحت الإِزميل.
غير أَنَّ حُرِّيَّةَ استعمالِ هذه المساحة (كَمَدِّ الصوتِ في الغناء من دون الخروج على اللحن، أو كَتَمَدُّدِ الخطوطِ والأَشكال والأَلوان في اللوحةِ من دون الخروجِ على القاعدة الذهبية) يجب أَلَّا تَخْرُجَ على الأُصول.
التجديدُ لا يكون بالخروج على الأَعراف، بل بتطويرِها من داخلِها، والتَشدُّد بالتِزامِ صعوباتٍ ذاتيةٍ يُحدِّدُها المبدعُ لذاته كي يصعُبَ، لأَنَّ الفنَّ يعيشُ طويلًا في الصعوبة، ويموتُ سريعًا في السهولة أَو الاستسهال. من هنا أَنَّ الجذورَ العميقةَ (كَجُذورِ الشعر وأَعرافه) تُتيحُ التجديدَ من داخلِها لأَنها عميقةٌ وتَتَّسعُ لكلِّ تجديدٍ وتطوير، بينما السطحيةُ الضئيلةُ العُمْق لا تُتيح فيها أَيَّ حَيِّزٍ للتجديد لأَنها سرعانَ ما تخرج إِلى صفحةِ الترابِ وتموتُ من الاختناقِ ونقْصِ التغذية.

قصيدة منسرحة (محمود درويش)
الشكل المنسرح
قد يعتمد الشاعرُ الكلاسيكيُّ الشَّكْلَ المنسرح على الصفحة، كي يَخدمَ المعنى بما لا يؤْذي العين، فيُعطي العبارةَ مداها بين كلماتها والبياض. ثم ينتقل إِلى سطرٍ آخَرَ يُعطي فيه العبارةَ الجديدة مداها من كلماتها والبياض. ويكون ذلك بالإِشاحة كُليًّا عن التقطيعِ التقليديِّ للقصيدة الكلاسيكية: أَي رصف الأَبيات واحدِها تحت الآخَر، مفصولةً بالبياض التقليديِّ بين شَطْرَي الصَّدر والعَجُز. ربما كان لذاكَ الشكلِ التقليديِّ الموروثِ تبريرُهُ في حينه، لضروراتٍ معيَّنَة. غير أَن إِنشادَه بهذا الشكل المُقَطَّع (خاصة حين يكون صاحبه نَظَّامًا لا شاعرًا) يخلقُ في السامع رتابةً إِلقائيَّةً مُمِلَّةً يشيحُ معها عن السَماع. وهذا ما قد يشعر به القارئ اليوم فيشيحُ عن قراءةِ القصيدةِ العموديةِ الشكل بتقطيعها التقليدي ذي الشَطرَيْن لأَن الشاعرَ أَحيانًا يضطرُّ إِلى إِنهاء المعنى (صدرِه أَو عَجُزِه) لأَن البيت انتهى تشطيرُهُ العَروضي. وهذا يخطَفُ لديه نَفَس الصورة أَو الفِلْذَةَ الشعرية (إِن لم يكن شاعرًا متمكِّنًا يفيض بحضوره الشعري على فِلذة البيت أَو على شَطْرَيْهِ التقليديَّين المُقَطَّعَيْن صدْرًا وعجُزًا).

نموذج قصيدة كلاسيكية بالشكل التقليدي
المهم إتقان العروض
هذا التقطيعُ العروضي (وهو أَساسٌ في الشعر الكلاسيكي) يصبح ذهنيًا، لا بصريًّا، لمن يُتقن العَروض، فيعرف طبعًا أَنَّ هذا البيتَ عَموديٌّ، موزونٌ، ومقطَّع عروضيًّا بشكلٍ سليمٍ "تفعيلاتيًّا"، ولم يَعُدْ ضروريًّا له أَنْ يكونَ التقطيعُ التقليديُّ بَصَريًا.
وقارئٌ لا يُتقن العَروض، لن يُعَلِّبَه الشكلُ العموديُّ التقليديُّ سَلَفًا في قياسات البيت، بل سَيقْرأُ شِعْرًا يأْخُذُه فيه المضمون (يُحبُّه أَو لا، ليست هنا المسأَلة) من دونِ أَنْ يَتأَثَّرَ نَظَرُهُ مُسْبَقًا بهندسيَّةِ القصيدةِ العمودية: في نهاياتِ الأَبيات أَو في رصفِ القوافي تحت بعضِها البعض. عندها، يكون هذا القارئ مباشرةً مع القصيدة بما فيها، لا بما يفرضهُ سلَفًا عليه شكلُها قبل مضمونها.
وإِذا المضمونُ حَقُّ المتلقِّي (سامعًا أَو قارئًا)، فالشكلُ حَقُّ الشاعر، شرطَ أَلَّا يؤْذي هذا الشكلُ بلوغَ القارئِ مضمونَ القصيدة.
0 تعليق