نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الخدمة المدنية في سوريا: بين الرغبة في الإصلاح ومخاوف التطبيق - تواصل نيوز, اليوم الأربعاء 15 أكتوبر 2025 05:59 صباحاً
تواصل نيوز - دمشق - "النهار"
أطلقت وزارة التنمية الإدارية مشروع قانون الخدمة المدنية الجديد، واضعةً نصّه الأوّلي للاطلاع وإبداء الرأي. الإعلان لم يبدُ إجراءً تقنياً بقدر ما بدا حجراً ثقيلاً في بركةٍ راكدة، ومحاولةً لإعادة بناء العلاقة بين الدولة وموظّفيها على أسس الجدارة والشفافية والمساءلة.
منذ تشكيل لجنة الصياغة النهائية، التي ضمّت ممثلين عن وزارات وهيئات رقابية ونقابية وخبراء، ارتفع سقف التوقّعات: إعادة تعريف الوظيفة العامة كأداةٍ للتنمية، وترسيخ مبدأ الجدارة في التعيين والترقية، وتحقيق توازنٍ بين حقوق العاملين ومقتضيات المصلحة العامة، وتعزيز الشفافية والمساءلة. بدا المقصود تجاوز الترقيع على القانون الرقم 50 لعام 2004، نحو تبديلٍ في المنطق الذي يحكم الخدمة العامة من جذوره.
في متن المشروع، تلوح ملامح انتقال هادئ من قاعدة "التعيين ثم انتظار الأقدمية" إلى مسارات مهنية محدّدة ترتبط بنتائج تقييم مُعلنة، مع ترسيم أوضح للسلم الوظيفي ومراتبه ودرجاته، وما يتبع ذلك من مقتضيات الترفيع. وفي ما خصّ الأجور، يُقترح سلّماً مرجعياً موحّداً يُراجع دورياً، استناداً إلى مؤشرات الاقتصاد والحدّ الأدنى للمعيشة وحركة الأجور والتضخّم والسياسات العامة. كما يُضبط الاستحقاق بنصّ يمنع تقاضي أجر من دون شاغل قانوني أو خارج الأوضاع المقرّرة.
أما العلاوات، فتأتي بصيغة أقرب إلى مكافأة الفعل المهني، عبر آلية معلنة تراعي الأداء والمؤهل والقدم وتنمية القدرات. وتُمايز بين علاوة الانتقال إلى مرتبة أعلى، والعلاوة السنوية المقيّدة، وعلاوة "المرتبة الممتازة" المشروطة بأداء لا يقلّ عن "ممتاز" عاماً بعد عام، إلى جانب بدل تدريب ضمن حدود ساعات وسقوف مالية. أما الحوافز، فتُحال على نظام نموذجي يصدر بمرسوم، يحدّد معايير الاستحقاق وآليات الترشيح والمراجعة والرقابة، في خطوة تعكس رغبةً في نقلها من حيّز الاجتهادات المتباينة إلى إطار حوكميّ أكثر اتساقاً.
فرع الهجرة والجوازات في إدلب. (وكالات)
وفي تفاصيل الحياة الوظيفية، يعيد المشروع ترتيب الإجازات بنسق أوضح: إدارية سنوية تبدأ بـ24 يوماً وترتفع إلى 30 بعد عشر سنوات خدمة أو بعد الخمسين، ومرضية تمتد حتى 200 يوم بأجر يتدرّج نزولاً، وإجازات أمومة بتمام الأجر مع ترتيبات للرعاية، وأبوة لسبعة أيام مدفوعة، فضلاً عن إجازات طارئة للزواج والوفاة ومرافقة العلاج، وأخرى امتحانية للدراسة، وإجازات بلا أجر بضوابط لا تُحتسب من الخدمة وتُفهم على أنها لا ينبغي أن تتحوّل إلى ثغرة تُعطّل المرفق العام.
ويُعزّز ذلك باب خاص بالشفافية وحقّ التظلّم: إعلان مسبق للشواغر ومعايير التقييم، ونشر رسميّ لنتائج الأداء وقرارات الترفيع والإيفاد، مع مسالك تظلّم على مستويين بآجال محدّدة وإمكانية طعن قضائي عند الاقتضاء؛ ترتيب يقلّص عادة مساحات الالتباس في التنافس والترقّي.
كذلك، تفصّل مدوّنة السلوك ما يُنتظر من الموظّف وما يُحظر عليه: من إساءة استعمال السلطة وتضارب المصالح وقبول الهدايا وجمع التبرّعات داخل أماكن العمل وتسريب المعلومات، إلى صور التعارض بين الوظيفة والنشاط الخاص، مروراً بقواعد التعامل داخل فريق العمل ومع طالبي الخدمة على قاعدة عدم التمييز، مع التزام الإبلاغ عن الفساد وحماية المبلّغين. ويتدرّج النظام التأديبي من التنبيه والإنذار وحسم الأجر إلى إجراءات تتطلّب تحقيقاً تنظيمياً ومواجهة علنية، وصولاً إلى الفصل بقرار مسلكي قضائي. أما "كفّ اليد"، فيُطرح كتدبير وقائيّ محدّد المدّة والأثر المالي، يليه التحقيق إمّا برفعه وإعادة الموظّف حكماً إذا انتفى موجب التوقيف، وإمّا المضي في المساءلة وفق ما يسفر عنه المسار النظامي.
وعند نهاية الدورة الوظيفية، تُساق الأسباب على نحوٍ محكم: بلوغ السنّ القانونية، والتقاعد المبكر ضمن اشتراطات الخدمة الفعلية، والاستقالة، والتسريح لأسباب صحية أو لضعف الأداء، والتسريح التأديبي، وانتهاء العقد، والصرف أو الطرد أو فقدان شرط من شروط التوظيف، والوفاة. ويرتّب النص منحاً نقدية عند الانفكاك بأربع رواتب شهرية في الحالات المحدّدة، ومنحة تعادل أجر الشهر الأخير عند الاستقالة أو انتهاء العقد ضمن ضوابط واضحة، مع إجراءات تسليم وتسلم بآجال قصيرة ومحاضر رسمية ووقف للأجر عند الامتناع. كما يفتح المشروع باب التمديد بعد سنّ الستين لعام قابل للتجديد حتى خمسة أعوام بقرار لجنة مختصّة، على أن تُحتسب تلك المدد في المعاش وحساب الترفيع. ترتيب يوازن بين الخبرة المتراكمة والحاجة الدائمة إلى ضخّ دماء جديدة.
ورغم هذه الإشارات الإصلاحية، تكشف القراءة المتأنّية عن ثغرات بنيوية تستدعي المراجعة. فبعض التعاريف جاءت غير منضبطة علمياً، وخلطت بين النشاط والكيان، ما قد يُفضي إلى اضطراب في التفسير والتنفيذ. كما بدت أنماط التوظيف غير واضحة، وأحالت نظام إدارة الموارد البشرية على أنظمة مستقبلية غير جاهزة، ما يُضعف جاهزية القانون للتطبيق.
التصنيف الوظيفي بدوره اعتمد سنوات الدراسة معياراً وحيداً، وهو ما لا يعكس طبيعة الوظائف ولا الكفاءات المطلوبة، وقد يُعيد إنتاج الخلل الذي شاب القانون السابق بدل معالجته. كذلك، يثير الاستثناء الرئاسي الذي يتيح تعيين غير السوريين في الوظيفة العامة من دون ضوابط زمنية أو نوعية قلقاً سيادياً، ويُستحسن تقييده بشروط واضحة ومعلنة. أمّا التعيينات العليا، فتبقى بيد الوزراء والمديرين العامين من دون رقابة أو معايير محدّدة، ما قد يفتح الباب أمام الزبائنية ويُهدّد الاستقرار الوظيفي.
إلى ذلك، يُحال نظام الحوافز والتعويضات على مراسيم مستقبلية، فيما تمنح وزارة التنمية صلاحيات مالية واجتماعية كانت تقليدياً من اختصاص وزارات أخرى، ما يُثير تساؤلات حيال التوازن المؤسسي. أما العقوبات التأديبية، فجاءت عمومية من دون تحديد دقيق للأسباب، بما يُخالف مبدأ "لا عقوبة إلا بنصّ"، ويُضعف الضمانات الإدارية.
بهذه القراءة، يبدو النص محاولة جادة لإعادة توجيه البوصلة: أداء يسبق الأقدمية، ومسار مهنيّ قبل الرتابة، وشفافية وتظلّم ورقابة تقلّص الالتباس، وسلّم أجور وحوافز أقرب إلى المراجعة الدورية منه إلى الجمود. غير أنّ ما سيحكم المسافة بين الورق والواقع هو ما ستأتي به الأنظمة التنفيذية وأدوات القياس والحوكمة الرقمية، وقدرة المؤسسات على تطبيق القاعدة نفسها على الجميع؛ مسافة تقصر حين تُحسن اللوائح الضبط وتتكافأ الفرص، وتمتدّ كلّما تُركت العناوين العامة بلا أدوات دقيقة.
0 تعليق