تفكيك الوعي: كيف تنزلق الدولة الوطنية نحو الهشاشة في زمن الفوضى الرقمية؟ #عاجل - تواصل نيوز

منوعات 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
تفكيك الوعي: كيف تنزلق الدولة الوطنية نحو الهشاشة في زمن الفوضى الرقمية؟ #عاجل - تواصل نيوز, اليوم السبت 22 نوفمبر 2025 06:43 مساءً

تواصل نيوز - جو 24 :

 

كتب د. عبدالله حسين العزام

يشهد العالم المعاصر حالة متزايدة من الهبوط الفكري، تتجلى في انتشار ثقافة سطحية عميقة تعيد تشكيل الذوق العام وتوجّه الوعي الجمعي نحو محتوى استهلاكي فارغ لا يحمل قيمة معرفية أو فكرية إطلاقاً.

وبناءا على ما سبق فإن هذا التحول لا يمكن اعتباره مجرد ظاهرة اجتماعية مرتبطة بالتكنولوجيا، بل أصبح عنواناً لمرحلة تتراجع فيها الثقافة الجادة و الرصينة المستندة إلى القيم والمبادئ والعادات والتقاليد والأعراف الإجتماعية، وتتصدّر فيها صناعة التفاهة عبر منصات التأثير، فيسقط العقل أمام ضجيج لا يحمل معنى، وتتحول السخافة من خيار فردي إلى نمط ثقافي عام يعاد إنتاجه بوتيرة يومية؛ وفي هذه الأجواء، يفقد المجتمع قدرته على التفكير النقدي، ويُستبدل الحوار الرشيد بجملة من الصراعات الرقمية والفضائح المفتعلة، بينما تتوارى الأسئلة الكبرى خلف موجات من الترفيه المصمّم لإشغال الإنسان عن واقعه الحقيقي.

من منظور العلاقات الدولية، لا يعدّ هذا الانحدار شأناً داخلياً أو نتيجة طبيعية لتطور الإعلام الجديد، بل هو مسار استراتيجي يؤثر على بنية الدولة الوطنية وموقعها في النظام العالمي؛ فالقوة الناعمة اليوم لا تقوم فقط على الثقافة والفنون، بل على قدرة الدولة على حماية عقل المجتمع من التلاعب، فالدول التي تفشل في بناء وعي صلب تصبح أكثر هشاشة أمام النفوذ الخارجي، لأن الجماهير المشتتة والعقول الغارقة في التفاهة تشكل أرض خصبة للتضليل، بالإضافة إلى تسويق أجندات دولية تعيد تشكيل الولاءات والتصورات، وعندما يفقد المواطن ارتباطه الرمزي بالدولة، ويصبح منشغلاً بمحتوى سريع ومُسَطّح، وبالتالي يفقد المجتمع مناعته الفكرية، وتصبح الهوية الوطنية أكثر عرضة للتآكل!.

ومن الجدير بالذكر هنا أن هذه الظاهرة ليست جديدة في تاريخ الدول، فعلى سبيل المثال الإمبراطورية الرومانية اعتمدت في مراحل انحطاطها سياسة "الخبز والسيرك" لإلهاء الشعب بالمصارعة والمهرجانات وإبعادهم عن الفساد السياسي والأزمة الاقتصادية؛ وبمرور الزمن، تحوّل المجتمع إلى جمهور يبحث عن المتعة أكثر من اهتمامه بمصير الدولة، فاختلّ الوعي الجمعي، وتآكلت المناعة الحضارية، وكان ذلك إرهاصاً لسقوط إحدى أعظم الإمبراطوريات في التاريخ، وفي العصر الحديث، مثّل الاتحاد السوفييتي مثالًا آخر على صناعة الوعي الزائف، إذ اعتمد على دعاية رسمية ضخمة صنعت عالماً وهمياً منفصلًا عن الواقع؛ ومع تراكم الأكاذيب، فقد المواطن ثقته بالدولة وانهار الرابط بين الخطاب الرسمي وحياة الناس، فانهار الكيان العملاق من داخله قبل أي تدخل خارجي!.

وفي دول أخرى، مثل ألمانيا النازية، استُخدمت الدعاية الترفيهية والتسطيح الممنهج لصناعة مجتمع منزوع القدرة على التفكير النقدي، وهو ما أدى في النهاية إلى كوارث سياسية وعسكرية وانهيار النظام ذاته؛ فيما شكّلت تجربة كمبوديا والخمير الحمر مثالًا صارخاً على كيف يؤدي تدمير الثقافة والتعليم ونشر خطاب شعاراتي بسيط إلى انهيار الدولة وسقوطها في فوضى إنسانية مرعبة.

أما في العصر المعاصر، فقد شهدت فنزويلا انهياراً اقتصادياً وسياسياً واسعاً بعد سنوات من صناعة وعي زائف، حيث روّجت السلطة لنجاحات وهمية عبر إعلام موجّه، بينما كانت البنية الاقتصادية تتهاوى بصمت؛ وبالتالي فقد أدى هذا الانفصال بين الخطاب الرسمي والواقع إلى فقدان الدولة شرعيتها وتصدّع مؤسساتها، وفي ميانمار كذلك، ساهمت سياسات التضليل الرقمي وإغراق المجتمع بخطابات شعبوية زائفة في خلق بيئة هشّة استغلتها النخب العسكرية لتبرير الانقلاب، بينما وجد المجتمع نفسه عاجزاً عن مقاومة إعادة هندسة وعيه؛ أما بعض دول البلقان في التسعينيات، فقد اعتمدت على الدعاية القومية المتطرفة التي شوّهت الوعي العام وروّجت لروايات زائفة، ما أدى إلى تفكيك يوغوسلافيا ودخول المنطقة في حروب دامية!.

إن الخطر الحقيقي لصناعة التفاهة لا يكمن في وجودها، بل في قبولها كمعيار، وفي قدرتها على إزاحة الثقافة الجادة وإسكات الفكر المستقل؛ فعندما تصبح الشهرة هدفاً بحد ذاتها، وعندما تُقاس القيمة بعدد المشاهدات بدلًا من الوزن المعرفي، يتحول الفضاء العام إلى سوق للترفيه لا مكان فيه للعقل؛ ومع الوقت، تفقد الدولة الوطنية قدرتها على قيادة المجتمع فكرياً، وتتراجع الشرعية الثقافية للخطاب الوطني، ويصبح المواطن أكثر استعداداً لتصديق الأكاذيب، وأكثر ميلًا للعزوف عن المشاركة العامة، وأقل اهتماماً بمصير الدولة.

وفي الوقت الذي تتقاتل فيه الدول على النفوذ الرمزي، يعد فقدان السيطرة على الوعي خسارة استراتيجية خطيرة؛ من حيث أن الدولة الوطنية التي يفقد شعبها القدرة على التفكير العميق، أو ينشغل بمحتوى زائف، تصبح قابلة للتوجيه من الخارج، وتفقد تدريجياً استقلالها السياسي والثقافي، فالقوة اليوم لا تُقاس بالدبابات والجيوش فقط، بل بقدرة الدولة على حماية عقول مواطنيها من التفكك والانخداع والاستلاب!.

إن مواجهة هذا الانحدار الخطير يتطلب مشروع بناء جامع داخل الدولة الوطنية لا يقوم على المنع والقمع، بل على بناء ثقافة معرفية قوية، وتعليم نقدي، وإعلامٍ مهني قادر على منافسة التفاهة دون أن يقلّدها، ومؤسسات ثقافية تمتلك رؤية لصناعة وعي صلب يحصّن الدولة من الهشاشة، فالدول لا تسقط دائمًا تحت ضربات الخارج، بل تسقط حين يُترك الوعي وحيداً في مواجهة صناعة التفاهة، فيفقد المجتمع بوصلته ويصبح فريسة سهلة في عالم لا يرحم الضعفاء

ختاماً إن الدفاع عن الوعي ليس ترفاً فكرياً بل هو خط الدفاع الأول عن الدولة الوطنية، فإذا انهار هذا الخط، انهار معه كل شيء.

قدمنا لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى هذا المقال : تفكيك الوعي: كيف تنزلق الدولة الوطنية نحو الهشاشة في زمن الفوضى الرقمية؟ #عاجل - تواصل نيوز, اليوم السبت 22 نوفمبر 2025 06:43 مساءً

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق